سؤال صعب ومربك، هل يعقل أنها عاشت لمئة وأربع سنوات؟ أم أن تلك السنوات الطويلة هي التي عاشت لأجلها؟! البارحة كنا في حضرة 100 عام من الصبر والشجن والذكريات، والحكايات الزاخرة بالدفء، مكثنا في ظلها الوارف، هي ابنة الحاج ضاهر دعنا أحد أبرز الفاعلين في الحياة السياسية والاجتماعية لمدينة الخليل بدايات القرن العشرين، من مؤسسي الجمعية الاسلامية المسيحية في الخليل 1922 ومن أبرز داعمي حركة المقاومة الفلسطينية بين أعوام (1929-1948)، السيدة (رمزية دعنا مواليد مدينة الخليل عام 1918م). ذاكرتها كانت حاضرة في تفاصيل غابت عنا طويًلا، أهازيج وأغنيات خرجت من شفتيها المرتجفتين خائفة من مواجهة هذا الواقع الغريب، حدثتنا عن الكثير وشاهدنا الوقت كيف يحيط بها، يحميها من عثرات زمن طويل من النكبات والانتكاسات، تنقلنا معها في ذاكرتها الخصبة في محطات كثيرة منها: (موسم النبي موسى) وحدها حينما سألناها عن أخبارها قالت: (زمان الحياة كانت أحلى، كنا نطلع ع موسم النبي موسى 40 يوم نطبل واحنا حاملين بيرق الخليل نغني "سيدنا ابراهيم بالحضرة لابس جبة خضرا، فصّلناها ع طوله ولا اله الا الله، وعمي يا أبو خليل إحنا توكلنا عليه، لاقينا قبل ما يطل علينا الليل"، ولما نوصل القدس يوقفولنا أهلها يستقبلونا وينادوا "أهلا وسهلا ولاد عمنا الخليلية" كانت أيام بقدرش احكي عنها لأنه الحكي مش زي الشوف، واليهود كانوا يطلعوا معنا قبل المدبحة. ( ثورة البراق 1929م) هذا الحدث المفصلي في حياة الفلسطينيين، شهدته بعينيها وهي في عامها الحادي عشر، قالت: " كنا وولاد اليهود نلعب مع بعض ع درج الحرم وعند بير القلعة ونغنيلهم وهم يصفقولنا " ليب ليب ليب، واحد يهودي، لابس برنيطة، اخته ملكة، لابسة الشبكة" يهود الخليل كانوا مواطنين لا بدنا ندبحهم ولا يدبحونا الانجليز هم اللي قتلوهم، شفتهم بعيني ملقحين فوق بعض مسلمين ويهود في باب الزاوية ما كنا نعرف نفرق بين المسلم واليهودي. نيص البنات (رأس السنة الآشورية/ 1 نيسان/ عيد الربيع الكنعاني) في تفاصيل ذاكرة شبابها بين أعوام 1928-1934م، حملت إلينا ذكرياتها عطر جبال وبساتين الخليل في مواسم الاحتفال ب (نيص البنات) عيد الربيع ورأس السنة الآشورية الذي يوافق 1 نيسان من كل عام، قالت: في نيص البنات (عيد لمدة ثلاث أسابيع يمر فيه ثلاث مناسبات مهمة وهي : خميس فات (البيض)، وخميس البنات وخميس الاموات) كنا ناكل خس ونرقص بالبساتين ونحط اكليل ع شعرنا من ورق الليمون- حطيت نفس الاكليل ع راسي يوم عرسي فوق الجرجيت الأبيض- كنا بنيص البنات نقول: يا بنات النيص نيصنا السنة حيَّر ونلون البيض بخميس البيض، ونذبح بخميس الأموات ونزور المقابر. (صلاة استسقاء بإرث كنعاني قديم) أمطرتنا بحديث ينعش القلب فقالت: في الشتا لما يتأخر المطر نحمل لعبة من قش على عصاية، ونطلع ع مقام السقواتي بتل الرميدة بعد ما نغطس في بركة السلطان ونغني: احي امبوه يا دار الشيخ شوية واسقونا نقطة مية ريقنا ناشف ناشف من عجاجة الشرقية وكانت الدنيا تشتي علينا قبل ما نوصل بيوتنا. (ثورة فلسطين 1936م) هذا الحدث الأكبر الذي لم تبرح تفاصيله ذاكرتها، كان عسكر الانجليز حاضرًا في كل كلمة قالتها، كان شبحهم الذي عاشت فيه شبابها، خاصة في ظل بيت وطني مناضل يتوارى بين ذكرياتها وصورها وكأن ظل الانتداب بقي يهددها بعد كل هذه السنوات، ما انفكت تقول: كنا نحمل الأكل للثوار في شعب الملح، غاد كان مقبرة للانجليز، ومرة أمي خبت البارودة بأواعيها ومرقت وسط الجيش الانجليزي وراحت دفنتها تحت "زيتونة الغيّور" في سقاق مّقْلد، الانجليز عجبوا ع الناس، الناس طحنت الشعير وأكلت، وكنا ننزل مظاهرات ضد الانجليز، نوقف صفوف صفوف ونقول قدامهم لما نفوا الحج أمين الحسيني ع برا، وابعدوا أبي ع صرفند: يا حج امين شوف الحالة بعد الرز أكلنا نخالة هذه تفاصيل صغيرة مما روته لنا هذه السنديانة في حضن حارة السلايمة على عتبات بلدة الخليل القديمة، فريق التأريخ الشفوي التابع لنادي الندوة الثقافي في حضرة السيدة الجليلة (رمزية دعنا 104 سنوات).