الخليل 1930- 1940 يوم عادي عام 1937م يكاد أن يكون كل شيء هادئ، الزبائن في المطعم ينتظرون أن نقدم لهم الطعام، سوق اللبن يعج بالمارة والزبائن والعمال والفلاحين، الذين يحملون شتى أنواع الخضروات والفاكهة والحبوب، أنا ابن التسع سنوات مشغول بتقديم الطعام للعمال والمزارعين المتعبين بعد يوم طويل، فجأة يتغير كل شيء وكل هذا الصخب العادي في مدينة حيوية بالتجار والزوار، يتحول إلى ضجة وفوضى، صوت إطلاق رصاص يبدأ من قبل الثوار الفلسطينيين الذين يقفون في منطقة (الرأس/ حارة الجعبري) باتجاه معسكر الانجليز في الجبل المقابل بجانب مبنى الكرنتينا، وأمام حيرة الزبائن في اختيار طعامهم المحدود ب (اللبن أو الفاصولياء أو البامية بلحم الضأن) أصبح في حيرة من أمري في الذهاب إلى والدي الضرير قارئ القرآن في الحرم الابراهيمي أو باتجاه بيتنا على السلهة. لم تعرف الخليل أيامًا أقبح من أيام الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939م سوى ما سمعته من عمي عن رحلة السفربرلك وأيام الجوع نهاية الحكم التركي للبلاد، عندما كان العسكر التركي يأكل البرتقال ويرمي بقشره للأطفال الذين أنهكهم الجوع والمرض، لكن الناس عرفت كيف تستثمر الألم فبعد أن يمنع العسكر الإنجليزي التجول في المدينة أيام الثورة، وتغلق الأسواق أبوابها، كنت أتجه من المطعم نحو بيتنا في حارة "حوشية"، أسير في الشوارع وكأن الخليل أصبحت مدينة أشباح، وما أن أصل إلى طريق بيتنا مرورًا (بحاكورة الكيالي) أجد الناس والباعة والتجار هناك وكأن المدينة خُلقت من جديد، لم يكن هناك أي شيء قادر على الوقوف في وجه الحياة والناس. كانت الخليل مدينة زاخرة بالذكر وحلقات التصوف، في الحرم الابراهيمي أيام الانتداب البريطاني لم تتوقف حلقاتها ومجالس دراويشها، لتنتصب في ثلاث حلقات رئيسية منفصلة تتخذ كل منها زاوية من الحضرة اليعقوبية (حلقة عائلة مجاهد وحلقة لعائلة الجعبري وحلقة لعائلات الأشراف) وكانت النساء تتبعهم من الجاولية، كان الحرم لا يزال قبلة لكل الزهاد والمتصوفة وكان للخليل رونقها الخاص لكثرة المقامات والطقوس التي تقام بين ربوعها، كان الشيخ الدرويش محمد أبو رجب بمسبحته الخشبية الطويلة في مقام الاسحاقية وحلقة ذكره المميزة جزءً لا يتجزأ من بهاء المكان ومكانته المميزة عند كل أهل فلسطين والدول المجاورة. كان مقام الكنفوش التي تخدمه عائلة الأدهمي بعمامات رجالها الخضراء، والنساء الحاملات للزيت لمقام السقواتي ورفاعة الجعبري أيام الجُمع، أو تلك النسوة اللواتي يقفن عند مقامات الشبلي أو أبو الريش يتبركن بها ويقدمن لدراويشها الطعام والزيت، يكتب فصلًا هامًا عن تاريخ المدينة التي كانت أشبه بصومعة كبيرة، كان الانجليز يكسرون أبواب الدكاكين الخشبية وينهبون ما فيها، يصرخون بالناس "كومون" ((coming ليشاهدوا فظاعة ما يقومون به، لكن المدينة الرابضة على أبواب الزمن ترفض نداءً أجنبيًا وتحمل أولادها إلى مقامات صلاحها وأوليائها. عندما قامت حرب النكبة عام 1948م باع الناس ملابسهم واشتروا السلاح، شاركوا في معركة كفار عصيون ووقفوا في وجه الانجليز والصهاينة والاستعمار، حاولوا بكل ما أوتوا من قوة الاحتفاظ بملامحهم، لكن الاحتلال كان أقوى، أجبر الناس على خلع ثقافتهم وتغيير مسار حياتهم قسرًا، وهذه الشهادة الثمينة وهذه القصص تبقى لترمم وجه المكان ووجه الحكاية الأصيلة. يوم أمس الثلاثاء 6/12/2022 برفقة الحاج علي الزعتري مواليد مدينة الخليل 1928م، الشكر موصول له ولعائلته على حسن الضيافة والاستقبال.