في حديثه كنا في فسحة مسروقة بين زمنين، زمن يرتل تفاصيله بكل خشوع وآخر يمر عليه سريعًا وكأنه لا يعنيه بشيء، كل تلك الذكريات والأحداث كانت تحتل الحيز الأكبر في ذاكرته، بدءً بطفولته في حارة القلعة أكبر وأقدم حارات الخليل قبل أن تهدمها الحكومة الأردنية منتصف ستينيات القرن المنصرم، رسم لنا طريق صباه في أزقة الحارة وهو يتنقل بين العين الحمراء وبئر القلعة التي هدمتها الحكومة الأردنية ونقلتها من مكانها باتجاه حارة المحتسب، هذا التشويه في ملامح المكان مغفور أمام تحويلها إلى ثكنة لجنود الاحتلال الاسرائيلي فيما بعد. طريق التجارة/الشرقي قال "أهل زمان كانوا يقولوا بلاد الشرق" في إشارة منه لطريق التجارة التي كانت تمر من الغور نحو الكرك وسوريا، كان والدي تاجر للحبوب والدواب لم تكن عمان مدينة أو حتى قرية، كانت الكرك هي الوجهة للتجار، أو حلب في سوريا، كان مصنع الطباخي في منطقة بئر الحمص يجهز الشاحنات من أجل استيراد البضائع والأغنام من حلب، كان تجار الخليل يذهبون إلى أي مكان، وكان الجميع يأتي إلينا، الدروز من جبل العرب لشراء شحوم الأغنام، وكان خان الكيالي عند السهلة من أكبر خانات الخليل، أصحابه من عائلة الكيالي من دمشق، كنا والشام بلد واحدة لا يقسمنا شيء، اليوم نستورد الأغنام من استراليا ولا يجمعنا شيء. ثقافة اندثرت كانت الخليل القديمة لا تحتضن الناس فقط بل كانت لوحة ملونة زاخرة بعاداتها وتقاليدها التي اندثرت، موسم النبي موسى حيث كانت النساء تفي نذورها فيه، وموسم سيدنا الخضر، الأعراس التي تحمل عرسانها نحو الحرم بين أزقة وقناطر يتراقص عليها لهب قناديل الكاز ونقر الدفوف، صوت النسوة في نيص البنات وهن يحملن البيض الملون، الشباب وهم يعجنون الخبز في الأعراس، صوت العجائز في الدروب وهن يرددن "دستور من سيدنا الخضر"، حمامات الخليل العامة التي أصبحت الآن خالية، وخاناتها وأسواقها الزاخرة بكل أنواع البضائع، قبل أن تصبح مرتعًا للمستوطنين اليهود والعكسر، كنت أشاهد المطر وهو ينهمر من السماء بعد أن يطلب العجائز السقية من الله عند مقام السقواتي في تل الرميدة، أو عندما يدور الأطفال بلعبتهم الخشبية وهم يغنوان: أحي امبو يا دار الشيخ واسقونا شوية مية ريقنا ناشف ناشف من عذاب الشرقية حرب النكسة 1967م جندت في الحرب، تدربت من رفاقي في مدرسة الحسين بن علي، كانت البلاد تغلي، لم تكن معركة السموع قبل عام من النكسة سوى جرس إنذار لما هو قادم، وحينما قامت الحرب تقاسمت وصديقي بارودة وحيدة مع خمس رصاصات في مدرسة المتنبي مُنعنا من استخدامها، دخل الجيش الاسرائيلي البلاد وأصبح كل شيء بلا معنى، تغيير بعد الاحتلال كل شيء، وصارت الخليل أضيق، وبدأ العساكر يغيرون ملمح كل شيء. لم يبقى من الخليل التي يعرف سوى صورًا في الذاكرة، رأيناها في ملامحه التي كانت تبتهج حينما تحضر في خياله، تفاصيل كثيرة وحميمة، كان معها فريق التأريخ الشفوي التابع لنادي الندوة الثقافي في حضرة الحاج تيسير الزرو (أبو ماهر) مواليد الخليل 1947، اليوم السبت الموافق 3/12/2022