مسرحية "هوية غريب": إبليس أوسلو الذي قطف التفاحة
أحمد الحرباوي
هوية غريب مسرحية من إخراج خليل البطران، تأليف غسان نداف، وإنتاج مسرح أثر 2021، مسرحية دراما بقالب كوميدي ترصد أهم ملامح الاغتراب عند الفرد الفلسطيني الراهن، حيث يقوم هذا العمل على محاكمة الكينونة الفلسطينية من أصغر مركباتها وهي الأسرة، إلى المجتمع ثم المشهد السياسي العام، حيث تناول العمل قصة غريب وهو مواطن بلا هوية (رمز لفقدان الفلسطيني لكينونته نتيجة عدة سياقات أهمها التفريط من قبل المؤسسة السياسية بتلك الكينونة وسحقها، إلى المجتمع المتصارع والمتفكك والذي يحاول كل فرد فيه تحقيق غايات طبقية ) حيث تدور أحداث المسرحية وفق حبكة درامية خارجة عن حدود المسرح الكلاسيكي في الطرح، لتؤسس لحركة مسرحية شبابية تعيد الاعتبار للمسرح في كونه الفضاء الأول والأهم في تناول القضايا الانسانية.
يأتي هذا النص المسرحي بتلك الرؤية الاخراجية ليبدد العبثية في كون عملية التغيير قائمة على الشباب في كل ما تحمله من جرأة في الطرح وتخطي التابوهات، التي عادة ما يتم طرحها في المسرح من خلال الرمز والتورية، حيث جاء البوح داخل المسرحية من خلال الحوارات أو من خلال المونولوج أو استخدام عنصر الراوي للحدث، للتأكيد على محاولة هذا العمل محاكمة الواقع نتيجة فشل الإنسان (الشباب الفلسطيني) منذ بداية تفاعله مع محيطه في تحقيق الحد الأنى من الحقوق والتطلعات الأساسية، ليأتي هذ العمل في محاولة للوصول إلى تصور كامل عن العالم، من خلال رؤية مسرحية تم تكريسها بمهارة اخراجية كوسيلة من وسائل المعرفة الباحثة عن تفسير لوضع الإنسان في عالمه الواقعي، ليدخل هذا العمل المسرحي في صلب جدلية التفاعل بين الواقعين المادي والإبداعي، والوعي القائم والممكن، في محاولة منه للوصول إلى معانٍ جديدة قد تساهم في إعادة التوازن إلى الواقع المتأزم.
ومن هنا يكتسب هذا العمل المسرحي أهميته لأنه فعل وجودي يحاكم الواقع (السياسي والاجتماعي) من خلال قصص واقعية مُعاشه عبرت بلسان شخصياتها عن واقعهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والنفسي، حيث رصدت المسرحية من خلال طرحها التحولات الطبيعة في المكان والتاريخ خلال الزمان بشكل ضمني، ليصبح الفرد على الخشبة فاعل في صياغة ملامح الحقبة التاريخية وتحولات الإنسان والحضارة فيها، وهذا الفعل الحقيقي يأتي نتيجة تأزم الحالة الراهنة وعدم قدرة الفرد على أرض الوقع من تغييره أو التعامل مع مشكلاته التي يعاني منها، ليأتي المسرح معوضًا لتلك الحركة من الركود الاجتماعي حاملًا على عاتقه مهمة جوهرية قوامها أن يصبح رافدًا من روافد صناعة التاريخ. لم ينسج هذا العمل حبكته أو قصته المحورية في فضاء موازي أو عالم تراجيدي بل كان منبثقًا عن رؤية الإنسان في احتكاكه مع عوالم حاضره، ليحمل ملامح هذا التحول التاريخي الحامل لدرجة الوعي المتجسدة في الواقع، وهنا تأتي أهمية الحركة المسرحية الغير نمطية لحملها كمية من الإبداع مرتبطة بالوعي، إلى جانب قدرتها على صياغة ومعالجة قضاياه الخاصة وأزماتها، من خلال تفاعل درامي لا يحول العالم المادي إلى مجرد فقط – إحدى مشكلات المسرح العربي والفلسطيني- بل لتصبح البنية التحتية في العمل المسرحي شكل من أشكال إدراك العالم بكافه تجلياته.
حاكمت المسرحية واقع الفرد من خلال شكل درامي تفاعلي متعدد، قائم على استنطاق الوعي الفردي لا غير، حيث كان حضور السينوغرافيا في العمل بسيط جدًا ولكنه لم ينتقص من قدرة المسرحية في جذب انتباه الجمهور، حيث كانت الأحداث والحبكة الدرامية والموسيقى الحية في الخلفية قادرة على اجتذاب وعي الجمهور واحساسه من خلال الخطاب المرسل إليه، هذا الخطاب الذي يؤكد على كينونة متصارعة ممتدة نحو الآخر، ضمن دائرة الصراع على الأرض والهوية وحقيقة الإنسان بين الفلسطيني ومُحتله والدائرة الأخرى المتمثلة في السلطة السياسية الحاكمة، من خلال خلقها لشكل صراع مختلف يستنزف الفلسطيني ضمن دائرته الأولى الأصلية، لأنه أصبح في صراع آخر مع تلك السلطة، من خلال ما فتحته عبر مؤسساتها الجديدة من آفاق وظيفية ارتبطت بطبقة وفئات معينة لها امتداد في الحكمـ إلى جانب التأسيس لمنفعة محدودة من خلال إرساءها طبقة جديدة في المجتمع الفلسطيني خلقت صراعًا آخرًا مستجد ونامي في الزمن، تقوم وتتغذى من المناصب السلطوية على حساب الطبقات الأخرى من المجتمع الفلسطيني، متجاهلة كافة القضايا الوطنية الكبرى، لتحاكم المجتمع وكافة الرافضين للظلم والتسلط فيه من خلال أحكام مسبقة متعلقة بالمثلية الجنسية والأجندات الخارجية وغيرها العديد من القضايا الاجتماعية المشروعة، ليتم في النهاية تفصيل تهم للأفراد المعارضين السياسيين ومحاكمتهم حتى بعد أن قتلوا على يد أجهزتها الأمنية.
وهذا الطرح المسرحي الممتد من المجتمع يؤكد على كون الفرد ومنتجه الابداعي يحمل أزمة في الهوية والانتماء للمؤسسة الوطنية وفق عدة منطلقات أنتجت أزمة في شرعية السلطة ومؤسساتها في الوعي الفلسطيني، ومن خلال ما سبق نستطيع أن نتحدث عن حركة مسرحية شبابية غير مألوفة وجريئة وقادرة على التفاعل مع مركبات مجتمعها بطريقة ذكية ومباشرة لتعيد الاعتبار للمسرح ودوره في قيادة تغيير حقيقي يسمو بالفرد نحو فضاءات الحرية وتحقيق الذات وترميم وجه المشروع الوطني الحقيقي القادر على احتواء الفرد والدفاع عن قضاياه الأساسية.