1 قراءة دقيقة


بقلم الكاتبة زكية عياش



حين يكون الشغف، تتراءى الفكرة، و حين تنضج الفكرة  يولد النص اليوم نحن أمام رحلة سردية تعانق التاريخ و الذاكرة الجمعية للمدينة احتضار عند حافة الذاكرة ،،،، عنوان مفتوح على كثير من الأسئلة حول سيميائية مراوغة تدفع القارئ إلى محاولة فك شيفرة محتوى الرواية، وبما أن العنوان في الحقيقة مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي، فإن العنوان الذي يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع وثيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية نصية تعتمد الاستعارة أو الترميز، فالاحتضار هنا هو النسيان و الطمس المتعمد لجزء من ذاكرة جماعية وترميز لحقبة كانت يوما هنا، عاشتها المدينة بشخوصها و حاراتها بوضعها الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي و الديني متمثلة في العلاقات بين كل من عبر أزقتها و سكن بيتا من بيوتها. 


و قد كان الفضل الكبير للبطلة لمياء  في زيادة تماهي العنوان لأنها  إحدى أبطال الرواية وهي من عنونت مذكراتها قبل أن تموت و (خطته بخط رشيق احتضار عند حافة الذاكرة)، إشارة من الكاتب إلى ما يخفيه ضمن بنية إشارية دالة، تحمل الكثير مما يخفيه النص ، فقد جاء في أول الكتاب و في آخره فكان بمثابة مادة مشعة تضيء فضاء النص و تقود إلى إمكانية فك رموزه و كشف غموضه و لخص مدارات التجربة و الأبعاد الرمزية لها. و أثناء القراءة نجدُ أن البنية النحوية للعنوان الرئيسي تقودُ التحليل إلى التالي: فالعنوان تركيب بسيط نحويّاً، ومعقد لما يُخفيه المتنُ وراء هذا العنوان الإيحائي. وهكذا فالعنوان ينحازُ للسهولة والبساطة التي نستنبطها منه ككلّ، ومن السهولة المتوافرة في كل مفردة بشكل منفصل  و ربما قد تطلب العنوان من المؤلف وقتا واسعا من التأمل والتدبر لتوليده وتحويله ليصبح بنية دلالية وإشهارية عامة للنص الروائي،لكن السؤال العريض الذي يطرحه العنوان هو: أين تلك الذاكرة من التدوين و الحفاظ عليها كجزء لا يتجزء من تاريخ حاضر لا و لن يطمس و لن يوأد رغم التهميش و الاحتضار.


 و لعل الاهداء هو التفسي رالصارخ أو الرد السريع  لما ورد في العنوان ، حيث أن و رغم الاحتضار فإن هذا العمل الروائي كان نخاعه صوت نسوة عشن و تنفسن عبق تاريخ المدينة و نقلن من جيلهن و الجيل الذي سبقهن سيرة حافلة لذاكرة المدينة الشفوية التي كلما تراكمت السنوات كلما ازددنا ابتعادا و اغترابا عنها. نشكر الكاتب على هذه الوليمة الدسمة لتاريخ المدينة، حيث حملتني معها و- أنا لست ابنة المدينة - لأجول عبر تاريخ محمل بالكثير من الدلالات الثقافية و السوسيولوجية و البنية التكوينية للمجتمع آنذاك. و بما أن التاريخ بصمة لا تمحى و لا تزور، فذاكرة هذه المدينة باقية و خالدة مهما حرفت حقائقها، و لقد نجح الكاتب في روايته في تصوير الأحداث التاريخية لفترة زمنية كانت المدينة ترزح تحت الحكم العثماني، صورها بطريقة درامية تداخلت فيها أدوار الشخصيات و حواراتهم و تقمصت كل شخصية منهم دور البطل في مرحلة من مراحل السرد، و تاريخ رسم في شوارع و حارات المدينة، و إذا كان التاريخ يصف أحداثا خارجية فإن الرواية التاريخية تصف الحياة نفسها.   يتفق البعض على كون الرواية التاريخية عملا أدبيا يعيدُ سرد الماضي بطريقة سردية تخيلية، وذلك من خلال خلق شخصيات خيالية بالإضافة إلى الشخصيات الحقيقة، ربما هذا التوازن بين الخيال والحقيقة يتيح للقارئ تصور أو إعادة رسم مشاهد التاريخ، ليس بالضرورة وفق ما رسمه الكاتب لكن بما سيرسمه هو كمتلقًّ لهذا العمل وما سيطبع في وعيه فيما بعد. 


  وقد توالت الأحداث التي شهدت على العديد من الحالات المختلفة من فرح او حزن، فعرضت الرواية احداث وفاة، وسجن، واغتراب و ولادة، وقد حرص الكاتب على وصف  الشخصيات ونفسيتهم، والأحاسيس والظروف التي يمرون بها، مع ربط مختلف هذه الحالات مع ظروف المدينة في تلك الفترة سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. فقد أخذنا النص إلى عصر ذهبي من تاريخ هذه المدينة و استوقفتنا على مشارف ديمومتها الغارقة في الأصالة تارة وفي التردد و التراجع تارة أخرى. 

 وقد نشعر و نحن نغوص في الرواية سيمفونية الوجع الفلسطيني، فالرواية ببساطة أسلوبها  تدفعنا إلى التأمل، زمن كان عند ساعة معينة و إصرار لتاريخ يأبى الاضمحلال و النسيان. و أصوات عند ناصية كل شارع وزقاق و حارة و عند كل منعرج من ذاكرة تقول لن نكف عن البحث، و نهاية بحثنا ستكون إلى حيث بدأنا، ونعرف المكان لأول مرة.
حيث كتبت بلغة بسيطة و رغم بساطتها فقد جاءت عميقة ومؤلمة تعكس بقوة وبوضوح وضع المدينة في حقبة باتت المخططات فيها واضحة جلية . وتلقي الضوء على استبداد الانتداب في ذلك الوقت و المتمثل في بريطانيا العظمى والتى انتجت بتعهداتها لليهود في انشاء وطن قومي لهم على ارض فلسطين، مأساة القرن العشرين والتى تسببت في الكثير من الحروب ولم تزل تعاني منها المنطقة العربية وربما تستمر هذه المعاناة في المستقبل المفتوح والذي لا يعلم بنهايته إلا الله.

  أما من حيث ثنائية الفصحى و العامية في الرواية فقد حملت في طياتها أنواعا مختلفة من النماذج والطوائف في المجتمع باختلاف عقائدها و طريقة تفكيرها، فقد كانت أكثر انفتاحا على مختلف العبارات اللفظية  العامية الموظفة فيها، ساهمت في بنائية النص الروائي من حيث سرد الأحداث و الوقائع فجاءت الأصوات الفردية تنوعا منظما أدبيا متحكما فيه كما جعل الشخصية المتحدثة غير متكلفة، مجسدا الكاتب بذلك للبنيات الاجتماعية و خلقه لعامل اجتماعي معاش من خلال اللهجة الممارسة. فالمزاوجة بين الفصحى و العامية أضفت على النص نوعا من الواقعية و الصدق الفني. فالاستعانة بالألفاظ العامية أمر ضروري لبناء حوار روائي تعبيري عن الواقع ذلك أن الواقع لا يمكن أن يستغني عن اللغة العامية. و قد لاحظنا استخدام اللهجة العامية في الموروث الشعبي الشفهي، فالأغاني الواردة بدت كجزء من نسيج الرواية المعبرة عن المنظومة الفكرية للمدينة، حيث جاءت بدائية لا كلفة فيها و لا تكنيك ترافقها صورة واضحة عن العادات و المعتقدات الممارسة آنذاك

 

و قدمها الكاتب على لسان الشخصيات تعبيرا عن حالات مختلفة مر بها الناس كالتجنيد الاجباري (السفربرلك) ما عرف بالنفير العام والتأهب للحرب، وهو فرمان أصدره السلطان العثماني بتاريخ الثالث من آب/أغسطس 1914. أخيرا تكمن أهمية هذه الرواية التي تحوي على جزء من نصوص المخطوطات التي عثر عليها الروائي وقام بتوظيفها داخل نصه الروائي، والكشف عن جوانب كانت مغيّبة أو مسكوت عنها خلال فترة من تاريخ المدينة ،و لعل جمالية العمل لا تكمن في أسلوب الروائي والخصائص الفنية للرواية وكذا سرد الوقائع التاريخية فقط، وإنّما تكمن أيضا في إظهار وكشف الجانب الخفي المسكوت عنه، وإعادة إضاءته، فالروائي لم يكن يملك الحرية المطلقة في اختيار وكتابة موضوعه، كونه أمام إعادة سرد حقائق تاريخية أملتها عليه وثائق ومخطوطات لم تكن موجودة من قبل وفي قالب روائي يجمع بين الخطاب الروائي والخطاب الجمالي.


شكرا لأحمد الحرباوي الذي حملنا بتلك المهارة العجيبة على صناعة الحيوات المحايثة والمشاكلة للواقع، ذاك التناص الجميل مع الواقع، بمنجز سردي متخيل يخترق كل المجتمعات لأن كونيته تتأسس من أنسنه للوجع والألم والحرية في بعدها الكوني.









تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.