1 قراءة دقيقة


نقفُ هنا مليًا عند العنوان ؛ هل الوهم و اللطف يجتمعان على مائدة واحدة ؟! و في أي الأوقات و الفصول تراه ذاك الاجتماع و تلك الألفة ؟!!
هل أرادَ أن يوصلَ لنا وسواس الرجال في فترة ما بعد الشباب و سن النشاط ؟!!
ولا سيما أنّ هذا العنوان هو عنوان أحد القصص في هذه المجموعة ، من باب إطلاق اسم الجزء على الكل ...
أم هي أوهامُ الرجال في خريف العمر؟؟!! فوجود شعرة على الجبين الناعس لبطل القصة أدخلته في متاهات أوهامه و أحلامه بأنثى يتصورها بكل الأعمار ليقبل هذه و يرفض الأخرى كلّ بمواصفاتها الندية البهية ...

يبدأُ الكاتبُ مجموعته القصصية بقصة ( الرجل ذو العين الواحدة ) ، التي إخالها قد لخصت الفكرة العامة التي تتمحور حولها المجموعة بكاملها ، فلا يمكن للوحشية و الجبروت السيطرة إلا إذا أردنا لها ذلك باستسلامنا و ضعفنا ، فضعفنا هو صناعة أوهامنا و تخلفنا و تمسكنا بحياة أيِّ حياة حتى آخر رمق ، و هذا ما أدركه الراوي و البطل ذاته فالموت بكرامة و شرف بالمحاولة تلوَ الأخرى لهزم الطغيان و لو بأبسط الأسلحة ، فبالتخطيط و التجهيز و التركيز و انتظار الفرصة السانحة للهجوم لا للدفاع سنبلغ الهدف مهما كان عظيمًا على ذواتنا المنهكة ، فلا بدّ من نقطة ضعف للعدو مهما علت سطوته و صدحت جبروته ، وهذه استراتيجية حربية تدرس في حال ضياع القوة بلا ملاذ آمن للجنود استخدام خطة الهجوم لا الدفاع ، فقع عين الوحش و الواقع المزري هي نقطة ضعفه و هوانه ....

هذه المجموعة بكل شخوصها و رمزيتها لا تخرج عن بوتقة واحدة ألا و هي " الاحتلال الصهيوني والواقع العربي " و تبعيات مجيئه و غطرسته و ما خلفه من أمراض سرت و استشرت داخل هذا الشعب . فالدمل الذي كاد يفقأُ صاحبه ما هو إلا الاحتلال البغيض الذي ظهر كورم في العالم كله و شوه وجه العالم العربي بعامة و الفلسطيني بخاصة ، أما الطبيب المداوي هو التخاذل العربي الذي تراجع و استنكف عن نصرة فلسطين حتى يمتد الورم لكامل الوطن العربي بالاستخفاف فيه و الدعوة إلى التطبيع و التعايش مع هذا الورم البغيض ..
لكن الرجل المريض رفض مصالحته معلقًا كلً آماله على التحرير بالاستعداد و التخطيط و الحيطة و الحذر.
والعار هو الغفلة التي كان بها الشعب عندما أخذت بريطانيا بتسهيل و تمليك اليهود للأراضي و العقارات الفلسطينية في مدلهم الليل و غفلته حتى بزغ فجر النهار على شعب بلا أرض و لا مأوى ..

كما صورت لنا قصة " مسوخ في الطريق إلى البيت " مشهدًا مريعًا يتعرض له الفلسطيني من تعسف و تعذيب و تدمير و الحرب النفسية التي يشنها الغازي على أبناء هذا الوطن ، فالوصول للهدف و أيِّ هدف المهم أنهم أتقن حربته في قلب إنسان يمشي على قارعة الطريق ، فالكلاب المسعورة و الطائرة الزنانة (الطنانة) من أوسخ الوسائل للهجوم على شعب أعزل ، فثمة فريسة في الدهليز التقطها أيها الكلب المسعور و استأصل منها قلبها النابض بالحياة ...!!

" الطوفان الثاني " ؛ تصويرٌ متقنٌ للدمار الذي تخلفه الحروب و الإبادة البشرية ليبقى القليل فيروي الحكاية ، و يصنع من عظام الموتى التاريخ ...

" يدي اليسرى " ؛ هي رمزية جامحة و خيالية واقعة ، فاليد اليسرى الناعمة المحبة للسلام ، المنهزمة أمام الطغيان ، تنكرها أختها اليمنى التي لا ترى إلا بالمقاومة و التحرير يحصل السلام و الأمان ، فالجراحون هم القادة المخلصون الذي نفتقر لوجودهم لاستئصال الخبيث و زرع الصلات الطيبة بين كلتا اليدين للتتوحد الصفوف و تبرقُ الرعود ...

أما حال الشعوب العربية في ظل الغطرسة الغربية و الأمريكية على العراق و الدمار الذي حلّ بها و بشعبها و كيف تحولت الأراضي الخضراء إلى مقابر جماعية لأحياء موتى لا ملاذ لهم فقد عالجته قصة " في عهدة السجّان " ، كما رمز إلى مصر و الحال المتردي في عهد الرئاسة الجديدة و ما بعد الثورة ، حيث فقد الهُوية و النفي القسري و التقتيل ، و خروج خيرات البلاد إلى العالم ومواطنها يقاسي مرارة السجّان ، و القلب المخلوع هي الحياة المسلوبة من الشعوب ، فهم موتى داخل جسد حي لا نبض فيه ...

لم ينسَ البطران الهمَّ الغزاوي و الدمار الذي حلّ بها و بأهلها ، وتأثيره على الشعوب العربية و امتداد العاطفة القومية على مسار الوطن العربي من خلال وسائل الإعلام المسموعة و المرئية وهذا ما لخصته قصة "حزن أعالي القلب" .

أما تناقضات الذات و حسابُ النفس فقد لمحناها في قصة "جرد حساب" فأنا أريد و ذاتي تريد شيئًا آخر ، أنا واقعي و هي حالمة ، أنا إنسان و هي أسطورة ، أنا أريد أن أبني مستقبلي و هي غارقة في أوهامها . كلانا يريد وكلانا مسجون بالآخر و للآخر ، فهذا في ماهيته جرد حساب بين النفس و ذاتها .....


هنا لنقف الهنيهة و نحلل عناصر المجموعة القصصية : 


الشخصيات : شخوص كاتبنا واقعية بنكهة أسطورية ، علا بها الرمز ، فأبطال قصصه متنوعة الأحاجي يغلب عليها اللغز الجامح في فك رمزيته ...
فالرجل الأزرق : رمز به إلى الضياع و سقوط الدولة الإسلامية و الهيمنة العربية و يدل على ذلك قوله " الأسد المريض " الرابض ، فتلك الوشوم التي تغطي جسده هي خريطة العالم العربي المبعثر الذي لم يبق منه إلا الحدود ...
و القصة القصيرة التي عضت كاتبها أظنها امرأة وفية و ماض لم يستطع الكاتب الفكاك منه ظنًا منه أنها لا تستحق الخلود في روحه ولكن سرعان ما تبدد هذا الشعور إلى حقيقة جمال هذه القصة فهي وفية و هو خائن جحود و يؤكد هذا الافتراض قصة "على قلق" في انتظار حبٍّ و امرأة تسرق ذاكرة المكان و تقض مضجع النسيان إلى غابات خضراء و غيمات رطبة يملؤها شغفٌ لعناق أبدي لأنثى طواها الزمان ...
أما الصراصير في حربها الضروس مع الراوي : فهم الدخلاء الذين يغزون أرضك بخبث و دهاء و مكر ،
و ما يقوي جبروتها إلا مخاوفك و ضعف ذاتك ...

كما أنه جعل لقصصه راويًا واحدًا ، وقد سار في هذا المضمار على نهج بديع الزمان الهمذاني في مقاماته ، فهو الراوي و البطل الرئيس في جل المجموعة القصصية ، لكن الهمذاني قد سمى راويه باسم عيسى بن هشام ،
و لم يكن دائما هو البطل ، أما في هذه المجموعة القصصية فالبطران لم يطلق اسمًا على راويه و بطله ولكن ما السبب؟!!
لأنّ الأسماء في قصصه ليس لها دلالة معينة فالتركيز كان على الحدث لا الشخصية ، فهي أحداث ممكن أن تحدث مع أي إنسان في هذا العالم المترامي في الماضي و الحاضر و المستقبل حتى ، فالأسماء نفسها لا تعبر عن حالها بل الحوادث هي الدالة على مكنون الأسماء و تاريخها ...

الأحداث ...واقعية تتخللها الأساطير ...

الزمان و المكان ، تارة جعل الكاتب زمانه ومكانه مبهمين و كان أكثر بلاغة و أعمق دلالة ، و تارة أخرى حدد الأمكنة و الأزمنة ، فانطلق من الخليل و إذنا و معابر ترقوميا و الجدار الفاصل و غزة و غيرها من الأمكنة ...
عبر سنة 1997م و انطلاق الانتفاضة الثانية عام 2000م ...

اللغة : مفهومة في أغلبها تناسب الناشئة أحيانا و تعلو فوق فكر المثقف أحيانا أخرى ، فقد استخدم بعض المصطلحات السريالية مثل " كافكويّ " و يعني مزاج سريالي غير مفهوم ...
كما استخدم الألفاظ الجزلة مثل ، سديم / المضبب / رزيّة / و غيرها
استخدام أسماء غريبة على العامة مثل بربري و غيرها ...
تميز بالمرادفات أيضًا مثل ( عيونهم المخلوعة ، أنوفهم المجدوعة ، آذانهم المقطوعة ) ...
لم تخلُ مجموعته من الصور الفنية مثل ( ها هي الأرض الغرقى تعود بكرًا عذراء مغسولة من آثامها القديمة وغيرها ) ...

*قصص البطران ، تعالج آفاتٍ سياسية و اجتماعية عربية ووطنية و أمراض إنسانية ، كما تمثلت قصصه بالنقمة على الواقع الوحشي و الحال المتردي الذي وصل إليه العالم العربي أجمع تحت وطأة حكام جاسوا الديار و دمروا الشعوب بشهواتهم و نزواتهم وطمعهم اللامحدود ...


و أخيرًا ، يا حبذا لو أن أستاذنا الكاتب لم يوضح سبب استخدامه للرموز و ما تشير إليه ليترك للقارئ تفسير دلالتها كما يحويه باطنه هو لا صدر الكاتب فذلك أعمق معنى و أجدر بلاغة .....

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.