1 قراءة دقيقة

لنبدأُ بتحليل العنوان " خيانة مقدّسة " .

  خيانة : مصدر للفعل خان

خيانة الأمانة : عدم صيانتها ، نقضها

الخيانة العظمى : خيانة الوطن والأمة.

خانَ ، يخونُ ،خنْ ،خيانة وخوْنًا ، فهو خائن ،والجمع خانة وخُوّان ،وخوَنة وهو خَوَّان 

وخان العهد :  أي نقضه 

وخان وطنه : تخلى عن واجب المواطنة والإخلاص للوطن .

وخان حبه: غدر به .

 

مُقدَّسة : مقدّس( اسم مفعول ) من قدَّسَ : قدَّسَ لشيءٍ مباركٍ ، يبعث في النفس الاحترام والهيبة .

 

المُقدّس بمعناها العام أي المبارك

 

إذن ... هذه الجملة الاسمية التي التي تحمل التناقضَ بين مفرداتها ، فنحن نعلمُ أن لفظَ خيانة هو لفظ بحدِّ ذاته لفظ مذموم وقد اتفق عليه العرب لأنه يحمل معنى الغدر ونقض العهد وهذا ليس من شيم البادية ، أما لفظ المقدّس ، فهي مفردة تتربع هرم السمو والعلي والرفعة بين المعاني .

 

فكيف للفظين متناقضين في المكانة الدلالية يلتقيان !!!

 

أحسبُ الكاتبَ استخدم حنكته وبراعته في اختيار عنوانه ليشوّق القارئ عما يصبو إليه حدسه ، فخيانةُ الوطنِ والأمة هي جريمة لا تعدلها جريمة ، ولا تنكرها حتى القوانين الوضعية ، فالوطنُ فوق الجميع ،ينسينا القرابة والأحبة والأهل ، فهو الأول في قاموس الحياة ، وإليه تصبو النفس وتفديه الروح .

 

من هنا من خان الأرض والعرض وتنكّر لذاك الوطن فنقضُ عهدِه واجبٌ وغدره محتوم لا بدَّ منه ، إذن فخيانته مقدّسة ومباركة.

 ينقلنا الكاتب من محطة زمنية إلى أخرى ويسترجع الماضي بخطى خبير قاد مركبة الزمان ، وتجوّل بين نبضاته ،عاصر شخوصه ، ونام على أضلع الخيبة تلو الخيبة ، واعتصر ألمه في عتبات الهلاك وتآمر الإخلاء ضد أرض تحتوي شعب نُسِجت له خيوط عنكبوت سام ،اصطادته الواحدة تلو الآخر ،غرزت أنيابها بأرضه لتحيلها سما فتاكا لا نجاة منه.

 

أبهرتني يا سادة ، خبرةُ شابٍ في مقتبل العمر لم يتجاوز الأربع و العشرينَ سنة ، يقود تلك الحروف إلى مراكب الحرفية ، والإبداع ، بوصف سنين غابرة ، موغلة في قدم الأحداث والتاريخ بحقائقه ومسمياته المتعددة .

 

هنا ،اسمحوا لي أنْ انحنيَ احترامًا وتقديرًا لتلك العقلية الناضجة وذاك الفكر النير الفذ.....

 

روايةُ أحمد  موسوعة فكرية عالجت آفاتٍ مجتمعيةٍ وألقت الضوءَ على كثير من الحقائق التاريخية التي يجهلها الكثير من العامة .

 

حاربتِ العادات والتقاليد التي تحرقنا برمادها المشوِّه للحياة والمجتمع ، ينسبونها للإسلام والإسلام منها براء ....

فقصةُ جمان و العار ؛ تعالجُ آفةً اجتماعيةً لطالما اسشرت في المجتمعات العربية عامة و الفلسطينية خاصة ، الأنثى خطيئة لا يجوزُ أن تتمردَ على أعرافٍ و عاداتٍ ما لها في الدين الإسلامي من أصل ، أمّا الرجل بكلِّ عاره وما يحمله من وِزْرِ خطاياه فهو مبرّاءٌ ، ولا رادع ولا عقاب له .

 

نعم يا أحمد ، أحسنت الرصفَ و الوصف ، الأبُ هنا هو العار وكلُّ من يتصف بصفاته و يحملُ فكره ، و ليست تلك الفتاة البريئة ، التي أحسبها إن هربت ، هربت من ظلمه و وحشيته لبيت أحد الأقرباء و ليس لتجتمع مع أحمد بطريقةٍ غيرِ شرعيةٍ ، لينتهي بأبِ العار حتى يغسل عاره المزعوم برصاصةٍ بقلب جمان و أخرى بقلب أحمد ، هكذا انتشى ذاك العارُ و اغتسلَ بثلجٍ وسخٍ ملطخٍ بسواد عاداتٍ و تقاليدٍ مشوّهةِ المعالم .
هكذا نحنُ ، اعتدنا على رمي المحصناتِ بالخطيئةِ جُزافًا دونَ تثبتٍ و لا حتى وازعٍ ديني ..!!

 

 

 

أحمد حرباوي ، استخدامك لعنصر الاسترجاع و لا سيما البداية من حيث النهاية ، لتدخلَنا في متاهاتِ الأزمنةِ و الأحداث ، و حركة الشخوص ، فمن الوقت الحاضر ، أخذنا معه حيث النكبة و ما آلت إليه البلاد ، من ثمّ يضعنا في الزاويةِ الفنيةِ و الثقافية و فلسطين و مسرح الأدب و الفن ، بتعدادِ أسماء حقيقية عايشت الواقع و دُفنت تحت ثراه ، وما بين النكبة 1948م و النكسة 1967م و يلات و انتكاسات توَّجها حزيران 1967م بتشريد شعب غدا مشتت الفكرِ و الأرض ...

ثم يضعنا في خضم الحدث ، و ينقلنا عبر قنواته و كيف ساهمتِ العمالةُ و الخيانة و كذا طائفة المستعربينَ بشقِّ الصف الفلسطيني من القدم للآن ،بطرقٍ جمة سواء على المستوى العاطفي و الحبّ ،
أم بطريق التغلل بين جذور هذا الشعب لتقطيعه إلى أشلاءٍ مبعثرة .

 

كلُّ هذه الأحداث و المتاهات لم تخرج عن الحدث الرئيس و لم تشوّه معالم الرواية ، بل على النقيض النقيض ، أعطت الرواية تماسكًا فنيًا و أدبيًا ببراعةِ و حنكةِ راوٍ جلَّ حرفُه ليرتقيَ مرابع الكتابة و الأدب .

 

كما وضعنا الراوي في زاويةِ الأديانِ و تعددها على هذه الأرض ، وهذه نقطة تحسب له لا عليه ، فنحنُ الشعب الفلسطيني مسلمينَ و مسيحيين شعب واحد ، فالإسلام أمّنَ أهلَ الكتابِ و لم ينتقصهم حقهم ...
الغريب على القارئ ، كانت شخصية رهام اليهودية المنحازة للشعب الفلسطيني و الهُويّة الفلسطينية ، مقرة و معترفة بأصالة هذا العرق ....ربما يا أحمد يحاربك القارئ من خلال هذه الشخصية و أنّها من وحي الخيال لا وجود لها على أرض الواقع ، فالمعروف أنّ اليهودَ ألدّ الأعداء لنا ، فكيفَ بشخصية يهودية مناصرة قضيتنا ؟!!
لا يا سادة ، من قرأ و تفقه بالسيرة النبوية قادته قريحته لمثل هذه الشخصية ، و لنا بصفية بنت حيي بن أخطب رأس الكفر اليهودي أعظم مثل ..فقد آمنت بمحمدٍ نبيًا و رسولًا قبل سبيها و انتصاره على أبيها ، و قد أقرتْ للرسول بذلك .

أمّا بالنسبة لمآخذي عن الرواية :
* إسهاب أحمد في الاستهلال و استطرد كثيرًا ، حيث يكرر المعنى نفسه بعدة أساليب و مفردات لغوية ، و كان الأجدر به أن يتحاشى الإطالة و الحشو الممل للقارئ ، و لا سيما أنّ البدايةَ عنصرٌ هامٌ من عناصر التشويق لمتابعة القراءة ...
* كما أنّ الرواية غارقة بالصور الفنية ، فلو أنّ كاتبَنا أجاز فيها لكي لا تطغى على المعنى ...

استكملتِ الروايةُ عناصرها الفنية ببراعة :
* الشخصيات : أحسبُ أنّ الكاتبَ أرخى بظلال روحه على بعض شخصياته ؛ و ذلك بائن من خلال مقدمة الرواية ، فقد أهداها إلى بهجته و قد ترددت هذه المفردات على ألسنة بعض الشخصيات بوصفِ الحبيبة أو الرفيقة أو الصديقة .... شخصياته واقعية مقنعة في حركاتها و سكناتها تشوّق القارئ للسؤالِ عن ماهية كلّ منها ...
_ وليد ، أستاذ فيزياء في إحدى مدارس القدس ، عاشَ يتيمًا في ملجأ للأيتام ، بعد مقتل والديه على أيدي العصابات الصهيونية ..أنهى دراسته على حساب أحد المتبرعينَ ، في جوفه اختناق كبير من ذنبٍ يؤرقه حينما ترك لقلبه التحكم به و ترك أصدقائه المخلصين ، فالنتيجة ألمٌ يعتصره من لحظة مقتل بترا
إلى الوقت الحاضر ...حافظ على أمانة صاحبه رأفت و لم يفرّط بها ...
_ بترا ، مسيحية و صديقة مخلصة ، آوَتِ الجميع و احتضنتهم بدفء و حنان و خاصة وليد ، كانت متزوجة من رائد الذي فقدته بعد النكبة مباشرة و لم تعلم عنه شيئًا ، وفية لزوجها و حبها ، عاشت على أطلاله و أمل اللقاء به . امرأة فطنة ، ذكية ، حدسها قادها إلى الاحتراس من ميس حبيبة وليد ، حيث أودى بها حدسها إلى مصرعها على أيدي المستوطنين الذينَ احتلوا بيتها عنوةً ....
_ جلال ، شخصية جامدة ، من مدينة الخليل ، صاحب مكتبة في القدس ، يُقدِّسُ العادات و التقاليد التي أودت به لخسران أجمل شيء في حياته ، و هو حبه لرند أخت أنس ....
_ رند ، فتاة جريئة ، منفتحة لا تقيدها حدود المدينة و عاداتها ، تمقت الجهل المجتمعي و نظرته للمرأة ، تحبُّ الحريةَ والكمال كما أنها أحبت جلال و بادلها حبه ، لكنّ كبرياءها بسبب نظرة جلال لها ، أبى إلا الرحيل و ترك وَجْده و راءه بنار ذنبه ....
_ أنس ، شخصية نامية ، صلبة و هادئة و بشوشة بعيدة عن التطفل ، أحبّ رهام ، لكنه آثر الابتعاد ، فالارتباط بيهودية خيانة فلسطينية لا تغتفر ....

 _ رهام ، فتاة في مطلع العشرين ، ناضجة و واعية ، يهودية دمشقية ، تقيم في فلسطين ، تحملُ رسالة إلى بترا من زوجها رائد ، ترفض الصهيونية وما حدث بالشعب الفلسطيني ، تعاونت مع أنس و أحبته ، و قد دفعت عمرها ضريبة لذاك الحبّ ، و تمت تصفيتها من قِبل الموساد الإسرائيلي ....

_ ميس ، عميلة صهيونية ، تغلغلت في وسط تلك الصداقة التي تجمع وليد و أنس و جلال و محمد و رند و رأفت و بترا ، تباكت على أكتاف وليد بخبثٍ مبطن ليأويها و تتقرب منه ، فكانت السبب في مقتل بترا و الاستيلاء على بيتها و سجن محمد و تشتت الأصدقاء ، فكانت نهايتها على يد حبيبها وليد ....

_ محمد ، سائق سيارة أجرة ، هاجر إلى الأردن بعد النكسة ومُنِعَ من دخول الضفة الغربية بتهمة تهريب السلاح ....

رأفت ، مقاوم فلسطيني و قائد للمقاومة ، كان يبحثُ عنه الموساد الإسرائيلي ، صاحب الأمانة التي بحوزة وليد ...تمّ اعتقاله و زجه في غياهب السجون الإسرائيلية ... كانت أمانته ( بندقية ) شرفه الذي دافع بها عن أرضه و عرضه هي حياته ، فقد سلمها للعدو و سلّمَ روحه للبارئ الأعلى ...

* اللغة : اعتمدَ الراوي لغة السرد و الحوار فيها قليل مع طوله ، اللغة سهلة لا تعقيد فيها تستطيع الناشئة استيعابها ...كما برع الراوي في تفسيره لكثير من المصطلحات الفلسطينية في هوامش الصفحات ..
يبدو أن الكاتبَ عمل على إخراج روايته لإخراجها دون أخطاء نحوية إلا بالنزر اليسير ، هناك بعض الأخطاء الإملائية و لكنها أيضًا قليلة ...
صوره الفنية كثيرة ، كما ذكرت آنفًا و مع ذلك فهي بليغة و رصينة تفضي إلى معانيها المرادة ...

* الزمان : نقلنا الكاتب عبر أزمنة متعددة ، من ما قبل النكبة إلى وقتنا الحاضر ....

*المكان : الأماكن متعددة و حقيقية و أسماء لأحياء ما زالت قائمة في مدينتي القدس و الخليل و غيرها ...كما برع في وصفها و كأنه عايشها و سار في دهاليزها يومًا من الأيام ...

* الأحداث : كان الكاتبُ ينقلنا عبر الأزمنة من حدثٍ إلى آخر دونَ أن نشعرَ ، وهذه نقطة و علامة تضاف إلى رصيد الكاتب .

* العقدة : بدأتِ الأحداثُ بالتأزمِ لحظة ظهور ميس في حياة وليد ، و عملها على إبعاده عن أصدقائه ليتسنّى لها عمل ما تريد بهم ، فكاد التأزم النفسي في روح وليد يعصره أيترك حبيبته و يبقى مع بترا و الأصدقاء لحمايتها ، أم يذهب مع حبه و قلبه المشنوق بذاك الجمال و يترك أصدقاءه و هكذا قد اختار قلبه الذي قاده لدمار أصدقائه و ترك ربيع الحياة و زهوها بينهم ...

* قَتْل وليد لميس التي توسلت إليه كيلا يخونها ، لكنه خانه من أجل الوطن فكانت خيانته ( خيانة مقدَّسة )....

كلمة أخيرة ...
أحمد حرباوي ، سيكونُ لك شأنٌ عظيمٌ ذات يوم بمشيئة الله تعالى ، و أشهد الله على ذلك ، هذه مجرد شهادة من كاتبة لازالت تحبو في مرابع النظم و النقد ، و أجزم أنك ستنالها يومًا ما من أعمدة الكتابة و أهرام الكُتّاب إن شاءَ اللهُ تعالى ....

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.