1 قراءة دقيقة

(فيلم الذاكرة الخصبة لميشيل خليفي، التأسيس لوعي سيميائي خاص بالسينما الفلسطينية، وفق مؤشرات مُحددة للهوية، فمن حرف إتجاه البوصلة؟)

 

أحمد الحرباوي- فيلم الذاكرة الخصبة للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي والمنتج في عام 1980م، أول فيلم فلسطيني يُصَور داخل الأراضي الفلسطيني، استطاع أن يتمثل الواقع وفق محددات الهوية الحقيقية بعيدًا عن رد الفعل الموجه ضد قضايا أحادية الطرح.

 

 

تتجاوز السينما الواقع المعاش في طرحها التصويري، حيث تعمل العدسة على إبراز تفاصيل خاصة تحمل وجهة نظر السيناريو والقصة، أو المخرج، بشكل تواصلي يعمل على إحداث تأثير في الخارطة الذهنية للمشاهد، من خلال وضعه في عملية تفاعل بين ما يحمله من قيم وأفكار متعلقة بقضايا خاصة معاشة، وبين الصورة التي تعرض أمامه لخدمة الهدف الأساسي من إنتاج الفيلم.

 من خلال هذه المقالة سنحاول استقراء المشهد السينيمائي الفلسطينني من خلال وضع مقاربة تحليلية لسمات أول فيلم سينمائي منتج في فلسطين، حمل ملامح مهمة عن الهوية والأرض والقضية، ووضع نقطة ارتكاز لقياس التحولات التي عصفت بالمشهد الاجتماعي الفلسطيني بعد الانتفاضة الأولى وتوقيع أوسلو.

يتناول الفيلم في مضمونه تسجيلًا توثيقيًا لسيدتين من فلسطين تتفاعل كل واحده منهن في بنية مجتمع متمايز من ناحية الشكل عن الآخر، وهذا التمايز مرتبط بالتراصف الطبقي للمجتمع الفلسطيني المنقسم بشكل أساسي بين مجتمع الريف والمدينة، ويعكس الفيلم ملامح تفاعل الفرد في تلك البنيتين بكل ما يحمله من قيم وتطلعات وآمال، وسط منظومة من المحددات الاجتماعية التي تحدد الهوية الاجتماعية والوطنية، في ظل منظومة احتلال يحيط بها محاولًا تفكيكها بطرق مباشرة وأخرى غير مباشرة.

من أبرز ملامح الفيلم السوسيولوجية هي تلك التي تضعنا في زاوية رصد للتحولات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني بعد أكثر من أربعين عامًا من انتاجه وفق ما تتناوله السينما الفلسطينية الحديثة، حيث أبرز المخرج باقتدار الملامح الحقيقية للمجتمع الفلسطيني من خلال اعتماده على شخصيتين متمايزتين في المكان والجغرافيا، ولكن ملامح المجتمع الفلسطيني كانت على قدر كبير من الانسجام رغم تلك الفروقات، وهذه يعكس مدى التغير الكبير والمتسارع الذي أفرزته أوسلو والذي شوه التطور التاريخي للفضاءات الاجتماعية الفلسطيني، وكيف تم فرز تراصفات طبقية جديدة بشكل سريع ما سبب تخلخلًا في البنية الاجتماعية الفلسطيني، والتي بدورها خلقت صراعًا على اتجاهات مختلفة، وهذا تجسد في شخصية سحر خليفة (المدينة)، وفرح حاطوم (الريف)، وهذا الانسجام غير متعلق فقط بالمحدد الجغرافي (مدينة_قرية) بل بالتقسيم السياسي، حيث تدور أحداث الفيلم في مدينة نابلس  داخل الضفة الغربية وإحدى قرى الداخل المحتل عام 1948م، وهذا الامتداد بالزمان والمكان يعكس وعي المخرج بهذا الامتداد الغير قابل للفصل ولا للتحوير حسب المفرزات السياسية، عكس ما تحاول السينما الفلسطينية اليوم ابرازه من حركة ارتداد في الجغرافيا، حيث يتم فصل بشكل واعي أو غير واعي بين التقسيمات الجغرافية بعد أوسلو، حيث يتعامل الفلسطيني في الداخل مع قضايا مجتمعه بشكل محدود، بدون أي محاولة لإعادة رتق النسيج الفلسطيني على امتداد فلسطين التاريخية بتناول أثر تلك القضايا في الضغة الغربية والعكس صحيح، وهذا نوع متضمن بالإقرار ربما بشكل غير واعي لما أفرزته الاتفاقات والتقسيمات السياسية للأرض والجغرافيا، وتبرز دور الفئة المبدعة المنتجة للوعي الجمعي في إعادة مد تلك الجسور لا تكريسها حسب ما ينتج حاليًا من قبل شريحة كبيرة من السينيمائيين الفلسطينيين والعرب، وما عكسه الفيلم من هذا الامتداد المكاني الثابت في الزمن أعطى تكامل للهوية الفلسطيني التي حاول الاحتلال تمزيقها بفعل عمليات العزل أو التهجير.

من أبرز ما عكسه الفيلم هو كيفية تبلور مفاهيم النضال في الوعي الجمعي الفلسطيني، حيث أن السياق التاريخي الذي انتج فيه الفيلم لم يحمل بنية تصادم مباشر مع الاحتلال، فحرب النكسة عام 1967م كانت مستندة على شعارات القومية العربية ودور الدول الاقليمية في الصراع مع الاحتلال، والانتفاضة الفلسطينية التي حملت ملامح أول صدام فلسطيني مباشر مع الاحتلال أتت بعد عقد من بداية تصوير الفيلم.

إن ملامح هذا الوعي بالدور النضالي المبكر حمل ملامح مختلفة، الأول متعلق بالنضال الفكري والثقافي من خلال شخصية سحر، التي نوهت لتبني فكر نضالي خاص كشف عنه الفيلم في مشاهد مختلفة ومتتابعة، كان قوامه الاساسي مرتكز على قضية التحرر الاجتماعي للمرأة لتأخذ دور أكثر فعالية في المجتمع، وحسب طرح سحر في حواراتها المرسلة داخل المشاهد أن الصورة النمطية لعمل المرأة في البيت (الدور الاجتماعي التقليدي) هو الذي يحصر فكرها في قضاية تنأى بها عن قضايا مجتمعها، لكن شخصية فرح ناطور المرأة العاملة لسنوات طويلة في السوق الفلسطيني أثبتت النقيض حسب تتابع أحداث الفيلم، لأن الانعتاق الاقتصادي وغياب الرجل في حياتها لم يحملها نحو تفكيك مفاهيم المجتمع الذكورية في وعيها، بل جعلها في صدام مع ابنتها وفق محددات العرف الاجتماعي، وبنفس الوقت صاغ لديها وعي وطني متمثل في تمسكها في الأرض التي تملكها، والتي صاردتها حكومة الاحتلال منها، ورفضها للمبادلة أو للبيع رغم الفائدة الكبيرة، هو دليل على أن مفاهيم النضال الوطني لا تتعارض مع النضال الاجتماعي ولا تضع أسبقية نضال على آخر، حسب ما يتم طرحه مؤخرًا في بعض الأعمال.

حمل الفيلم ملامح مهمة عن الهوية الوطنية من خلال تسليط الضوء على التراث المحلي من خلال الإغاني التراثية التي كانت تتغنى بها الشخصيات كل على حدى، ففرح الجدة التي حاولت أن تنقل هذا الموروث بطريقة شفوية متوارثة بكل ما يحمله من قيم قد تكون ذكورية بدلالات واضحة مثل ما تغنت به الأم لحفيدها (يا جارة ضبي بنتك، ايد ابني طويلة)، مقابل نموذج آخر حملته سحر من خلال إعادة صياغة هذا التراث لتوظيف الرؤية المضادة لتلك الرؤية الذكورية المتوارثة، وخاصة في إعادة انتاج أغنية ( يا ديك يا أبو القنبرة ليش طلقت المرة)، لتنقل المرأة التي تتسائل بخوف وخنوع من خلال الغناء إلى امرأة متهكمة على الرجل ودوره في المجتمع من خلال قولها (نافش ريشه، هو قدام وأنا ورا، ع المزبلة هو سرى، من غيظة من المرة، مين يجلي الصحون مين يزوق ريشي المزيون)، هذه البنية من التحوير تعكس بنية الوعي الخاص في فئة من النساء اللواتي يقدن معركة جندرية قد لا تفضي إلى تفكيك تلك الرؤية بقدر ما قد تكرسه بسبب حالة الصدام المتتابع التي تخلقها في ذلك المحيط، وطرح المخرج لتلك الرؤيتين مهم جدًا لوضع مقاربة متوازنة تتكامل فيها بالنهاية ملامح السردية النضالية الفلسطينية، دون أن يرجع أحداها على الأخرى، حيث برزت بعض التيارات السينيمائية وخاصة النسوية في قضية ترجيح كفة التحرر الفكري من المفاهيم الذكورية بطريقة صدامية همشت وقللت من شأن الدور التي تلعبه المرأة الفلسطينية البسيطة في النضال الوطني.

من أهم عناصر الفيلم التي شكلت مع رؤية الاخراج الناضج أساسًا لرؤية فلسطينية واعية، هي سيميائية المشاهد ( الدلالات والعناصر البصرية في الصورة) والتي وظفت وفق بعدين أساسيين، الأول هوية فلسطينية حقيقية ومتمايزة، والأخرى صورة غير متكلفة، حيث لم يحاول المخرج أن يرجح الحياة المدينية على الحياة الريفية لينقل صورة غير مكتملة الملامح عن الواقع الفلسطيني، وهذا ما حاولت بعض الأفلام التي تلت تلك الفترة عكسه، ربما كرد فعل على الصورة التي نقلتها وسائل الإعلام والأخبار عن صورة الفلسطيني اللاجئ والمشرد والفقير، لننقل للوعي العالمي صورة مدنية تعكس ما تم تداوله لعقود طويلة، وتأرجحت تلك الصور بين صورة مدنية جامدة قوامها حداثة فارغة من محتوى ثقافي خاص، وأخرى بائسة وفقيرة متعلقة بحياة ريفية محدودة.

إن التوازن الذي حمله هذا الفيلم بكل دلالاته قل ما تم طرحه في الأعمال الجديدة، فكانت المشاهد هنا متعلقة بالحياة البسيطة للنساء والأطفال في الشوارع، وصورة المحيط الطبيعي البسيط، ومشاهد جيش الاحتلال في السوق دون أن يكون بالضرورة هناك مواجهة مباشرة، وصورة الشاب الفلسطيني في الجامعة مع زملائه دون شعارات رنانة تريد أن تركز على أن الثورة المستمرة في الأجيال بشكل صدامي، أعطت ملمح حقيقي لما هو موجود، كما أن الحوار بكل ما حمله من قيم متصارعة دون أي تكلف أو تشويه أو ابتذال أعطى لمحة عن الصراع الاجتماعي الحقيقي والمعاش على ضوء القضية الوطنية، وهذا الحوار انعكس في شخصية فرح والابن في الحوار المتعلق بالأرض، من خلال جيل مستعد للتعامل مع القضية وفق الممكن، وجيل آخر متمسك بالثوابت، دون أن يبرز لدينا أي تكلف في المشاحنات أو الشعارات، كما أن الحوار بين فرح وابنتها حول مفاهيم الطلاق والعرف كانت صادقة ولم تحمل بعد تحريضي أو صدامي كما تحاول بعض الأعمال عكسه من خلال سيناريو موجه لوجهة نظر واحدة، وحوار سحر المرسل إلى مسقط رأسها نابلس لم يحمل نوع من النقمة على مجتمع يضع القيود بقدر ما أعطى نوع من الفهم والتفسير للشرطية التاريخية التي أفرزت تلك الأفكار في ذلك المحيط الاجتماعي المتضامن، كل هذه الملامح الصادقة استطاعت من خلال المخرج ان تقول كل ما لم يقال للمتلقي، لأن أفق الحوار أعطى للمشاهد أفقًا للتخيل، من أجل التعامل بشكل سليم مع الواقع ولم يفرض عليه رؤية قد تضعه في حالة صدام مع المجتمع.

كل هذه العناصر نقلت صورة صادقة عن حقيقة الفرد وخياراته وفق ما تفرزه البيئة التي ينشأ في خلالها، دون أنت تبرزنا مقاومين دائمًا أو ملائكة أو شياطين، وهذا الطرح المتوازن يضعنا في زاوية حقيقية لنرى أنفسنا داخل تلك المنظومة ودورنا الحقيقي فيها.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.