1 قراءة دقيقة

قراءة في رواية "احتضار عند حافة الذاكرة "للروائي الفلسطيني : أحمد الحرباوي 


بقلم أ.خولة العواودة


صدرت الرواية عن دار "هاشيت أنطوان " بيروت لعام 2022 ، وهي تقع في 133 صفحة من القطع المتوسط .جاءت الرواية بغلاف جميل يتناسب وموضوع السرد ، ثلاث بتلات خضراء اللون لها انعكاس اغمق بقليل او اقرب للأسود الى حد ما على صفحة من مياه بحر ربما ، وكأن الغلاف يشي بما في الرواية من سرد حزين قاتم وكأن البتلات الثلاث هن بطلات الرواية "ليقا اليهودية وانعكاسها ليلى  ، ميسون المسلمة وانعكاسها وجيهة ، ثم  لمياء وبريجيتا وتبادل الأدوار بينهما .يأخذك الراوي لحقبة من تاريخ المدينة المنكوبة خليل الرحمن بين عامي 1914 و 1915 وهي نهاية الحكم التركي في البلاد ، او نهاية دولة عرفت بالرجل المريض في آخر ايامها، فقد عانت الخليل كما كل فلسطين ويلات تسلط وظلم لم يسبق له مثيل في تاريخها ، بحيث لم تنجح الذاكرة المضرجة بالوجع من نسيانها ، فجاءت الرواية موثقة لأحداث حقيقية خلال رحلة البحث في الذاكرة الشفوية للمدينة.


تحكي الرواية وجع المرأة الفلسطينية والخليلية تحديدا جراء ممارسات "الأفندية" زمن الحكم العثماني وكيف أن العسكر الاتراك لم يبقوا شيئا للسكان الا عاثوا فيه خرابا ، ولم تسلم النساء من الاعتداء عليهن وتشغيلهن في مزارع الاقطاعيين مقابل بعض من المال او الغذاء لسد جوعهن وجوع اطفالهن في غياب الرجال في الحرب ، ومما ورد في التراث الشفوي أناشيد فيها من الوجع الكثير فجاء على سبيل المثال لا الحصر: " يا مدعسة قطوفك بكعاب الحنة عين الأفندي ما بترحم تعب ما تشمري ع الرمانة ليغار من العنب ...ص(48).

 جاء السرد حزينا فهو يروي تفاصيل التجنيد الاجباري لمن يبلغ من الرجال ، الى سحب الرجال القادرين على الخدمة من بيوتهم عنوة ليشاركوا في حرب البلقان ، وان قصرت العوائل في دفع الضرائب مقابل عدم الخدمة في الجيش فإنها تتعرض لأبشع أنواع العبودية والاستغلال وشتى أنواع الفقر والعوز .تسرد الرواية بشكل تفصيلي كيف ان هناك العديد ممن رفضوا التجنيد واعدموا لمناهضتهم الحكم في تلك الآونة وكيف ان الاطياف الدينية على اختلافها  شاركت في مقاومة التجنيد الاجباري ورفض ممارساته ، فكان اليهودي والمسيحي جنبا الى جنب مع المسلم ليتعرضوا لذات المصير من القتل والاعدام ، ومن يرفض الخدمة يساق للإعدام كما حصل مع كل من المختار،  وايلي واخرين ، ممن عارضوا الحكم التركي وانتموا لتنظيمات مناوئة .الرواية تسرد من خلال فصولها الثلاثة عشر تفاصيل التعايش بيت عائلة يهودية فلسطينية تناهض الحكم التركي وعائلات فلسطينية خليلية تتقاسم الحياة اليومية بكل تفاصيلها الموجعة بل أن اسرة المختار أخذت على عاتقها تربية بنت اليهودي "ايلي" الذي لاقى نفس مصير المختار وبقيت طفلته اليتيمة التي لم يعرف وهو يساق للإعدام بان زوجته "ليقا" انجبت طفلة وهي الان برعاية عائلة المختار المسلمة .

تتوالى أحداث الرواية في وصف تفاصيل حياة طفلة ايلي وليقا بعد رحيل المختار وزوجته وانتقال رعايتها لوجيهة ابنة عمها لزوجة المختار ثم إعطائها للغجر خوفا من كلام الناس بسبب تربية يهودية في بيت مسلم ، تفاصيل متتابعة تنتقل فيها الطفلة الى  لمياء الهاربة من تسلط الاقطاعي وظلمه ، فتتمسك لمياء بالطفلة وتغادر معها هربا باتجاه ولاية روسية من خلال الارساليات لتعيش خارج فلسطين ، بحيث تعتبر لمياء ان الطفلة ابنتها وتتكفل بتربيتها بعيدا عن بيئة الظلم والفقر ، فتقرر من خلال بريجيتا ( التي تعمل ضمن ارسالية فرنسية تعمل في البلاد ) السفر للخارج .تقفز الرواية الى عام 1953 لتوثيق نهاية الرواية برحيل لمياء وتركها وصية لليلى تحكي فيها جزء من ماضيهما وتوصيها بالذهاب الى الخليل وتحديدا منطقة لوزا وتحرر جثة امها من قبور الرومان في مدافن قرب قصر عمار لتدفن في منطقة الكرنتينا حسب وصيتها .ينتهي السرد بتوثيق احتضار" لمياء" الخليلية المسلمة الام المربية ل"ليلى " الخليلية اليهودية فكان الاحتضار على حافة ما رشح من الذاكرة بعد الاغتراب والفقد ومغادرة الحياة في ابعد بقعة عن الخليل.

يمكن اعتبار الرواية توثيقية حقيقية لما مرت به خليل الرحمن مع توأمها القدس من ظلم الحكم التركي للبلاد ورحلة السفربرلك وما تبعها من مآسي واعدامات طالت الكل الفلسطيني على اختلاف مذاهبه الدينية دون ادنى مراعاة لإنسانية الفلسطيني المعارض لحكم إسطنبول ، فجاءت الرواية توثق الحياة اليومية وعمق الروابط الاجتماعية والترابط الإنساني قبل الاحتلال الذي قطع اوصال المدينة كما باقي المدن حتى غدى حاضرها مختلفا كليا عما ورد في السرد الا ان أسماء المناطق وتوصيفها ودقة تفاصيل احداثها يؤكد صحة الشواهد ويدعم صدقها .يمكن اعتبار الرواية جزء من الموروث الثقافي والحكايات الشعبية المتوارثة عن نهايات الحجم العثماني في البلاد ، ولم تكن الخليل وحدها التي تعرضت لهكذا قضايا ،  نتمنى على الكاتب ان يتم توثيق باقي الحكايات في فصول او  أجزاء أخرى من ذات الرواية من تلك الحقبة الزمنية. لغة الرواية سلسلة وسهلة ، وتكاد تخلو من الأخطاء النحوية ، الا من خطأ مطبعي واحد السطر 3 ص 23 (الذ41ى).

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.