1 قراءة دقيقة

الباحثة التونسية أم الزين بن شيخة: الفن قادر على تحرير المقدس من عنف المؤسسة الدينية



حاورها: عبد الله الحيمر


 

عن إشكاليات سؤال الانتماءات على تعددها المفاهيمي في رسم ملامح حياة شعوب العالم، اختارت الباحثة التونسية أم زين، الانتصار والانتماء الجمالي للعالم في مواجهة إدارة التوحش، ووأد الفن باسم المقدس. كانت قراءتها حداثية ومعاصرة ومستقبلية في تحديد مفهوم المقدس. فراهنته تنحو حول حرية الانخراط الواعي والمسؤول في الوجود النشيط المؤسس لخلق مقدس يشبه ضائقتنا المعاصرة، ويمدنا بمفاتيح جمالية للانتماء للعالم.

بن شيخة باحثة تونسية ومحاضرة في الفلسفة في جامعة تونس المنار. لها العديد من المؤلفات النظرية والإبداعية منها: «تحرير المحسوس» «الفن في زمن الإرهاب» «كانط والحداثة الدينية» «لمسات في الجماليات المعاصرة» رواية «جرحى السماء» و»طوفان من الحلوى بمعبد الجماجم». حول منجزها الفلسفي كان معها هذا الحوار..


□ في كتابك «الفن والمقدس» هل وضعت نقد المقدس كإشكالية وجود أم صيرورة مأزق في ظاهرة العنف في العالم العربي؟

■ الفن والمقدس عنوان فلسفي لحقل تتداخل فيه إشكاليات متعددة، ومقاربات متنوعة. فهو ينخرط ضمن أفق البراديغم الثقافي العالمي الجديد، لتداخل الاختصاصات، ويفتح السؤال الفلسفي على حقول الإنسانيات والفنون بعامة، انطلاقا من أن الفلسفة لا تولد فقط من داخل الفلسفة، إنما هي تنبثق في كل موضع للبحث عن المعنى والدلالة والقيمة. الفن والمقدس هو حقل للبحث عن تجارب جديدة للمعنى خارج حدود التقاليد الفلسفية الكلاسيكية. إنه موطن اللقاء بين المقدس كوشم في الذاكرة والإبداع كتوقيعة إنسانية لإمكانية حدوث المستقبل تحت رعاية المخيلة. بودلير شاعر «زهور الشر» كتب في نص «إن المخيلة هي التي خلقت العالم، وهي التي تقوده». وهذه الكلمة هي بمثابة خيط فلسفي ناظم لمجمل معارك كتاب الفن والمقدس. لقد وُلد المقدس في أحضان الفن، في الإلياذة والأوديسا، وكان الفن هو أول من صاغ ملحمة المقدس، أي قصة خلق الآلهة للعالم ومعاركهم من أجل تدجين البشر تحت رايتهم. ومنذ هوميروس، والمعارك حول المقدس تغير من عناوينها، لكنها تستأنف أشكالا من العنف بين البشر حول معنى المقدس وشكله وعلاقته بالبشر. وحينما يتدخل الفن مرة أخرى على ركح الألعاب المقدسة، فهو سيكون قادرا على تحرير مجال المقدس من عنف المؤسسة الدينية، ويمنح المخيلة إمكانية استئناف قدرتها على تجديد الحياة الروحية لشعب ما.


□ نبوءة‌ ‌الفن‌ ‌كانت‌ ‌قبل‌ ‌المقدس‌ ‌الديني‌،‌ ‌والدين‌ ‌لم‌ ‌يتحول‌ ‌إلى‌ ‌منظومة‌ ‌ثقافية‌ ‌إلا‌ ‌عن‌ ‌طريق‌ ‌أساطير الحضارات‌ ‌القديمة‌ ‌في الشرق‌. كيف‌ ‌تقيمين‌ ‌هذه‌ ‌المعادلة‌ ‌في‌ إطار‌ ‌الديانات‌ ‌التوحيدية؟‌

■ لا أوافق على استعمال عبارة «نبوة» على الفن، لأن الفن بالمعنى الحديث له مجال مستقل تماما عن مجال التشريعات الدينية، التي تتخذ من النبوة نموذجا لها. نعم ولدت أولى الرسومات على الكهوف في الحضارات الشرقية القديمة،ثم ظهر السرد الملحمي والتراجيدي مع الإلياذة والأوديسا، وأيضا مع ما نسميه «قصيد» بارمنيدس، وازدهر فن الشعر عند العرب منذ المعلقات السبع، التي وقع تعليقها على الكعبة. لكن لا يمكن أن نعبر عما حدث في تاريخ مغاير لتاريخنا بالترسانة المفاهيمية نفسها التي اخترعها براديغم الأستطيقا الحديثة، منذ نحت الفيلسوف الألماني ألكسندر غوتليب بومغارتن هذا المفهوم سنة 1750، ومنذ عصر النهضة الإيطالية، حيث ظهر مفهوم الفن والأثر الفني وتوقيع الفنان لأعماله الفنية. فكتاب «الشعر» لأرسطو مثلا لا يمكن اعتماده نموذجا لتأويل قصائدنا، كما ولدت عند العرب في العصر الوسيط، ولا عن الشعر الحديث والقصيد الحر اليوم. لكل عصر نماذج في التعبير عن تجارب الإبداع الخاصة بها.

ما أردت بيانه في كتابي «الفن والمقدس» هو أن المقدس ليس دينيا فقط، وأن الفن بوسعه أن يخترع إمكانيات لمقدس غير ديني، سميته بالمقدس الجمالي، انطلاقا من جملة من التجديدات الفكرية الحاسمة، التي ظهرت في حقل الاشتغال على المقدس منذ دوركايم بتاريخ 1912، وصولا إلى روجيس دوبري 2012. الكتاب بحث علمي أكاديمي يهدف إلى ضخ المعارف الجديدة حول المقدس داخل لغة ضاد من أجل إثراء الثقافة العربية وتجديدها وتحريرها من الجمود والتقوقع على نفسها.


□ النص وتأويله سواء في الفن أو المقدس، عرضة لترجمة الثقافة السائدة في عصره، إما أن يتحول إلى جريمة ثقافية في حق الموروث الجمالي، أو إلى انتصار لقيم حداثية. ما رأيك؟

■ إن مسألة تأويل النص، سواء كان نصا مقدسا أو عملا فنيا لها نواميسها الخاصة لكنها تراهن في كل مرة على اختراع دلالة مناسبة للتشريع لقيم رمزية تجعل الحياة المشتركة ممكنة في ثقافة ما. لكن ثمة فرق بين ثقافة تمتلك القدرة والجرأة والإرادة على الانفتاح على التاريخ، والانخراط ضمن تحولاته الحاسمة والقبول بإنجاز تأويلات جديدة لنصوصها الدينية، وثقافة مصابة بالوهن الميتافيزيقي وتمسكها بالتأويلات القديمة، كما لو كانت هي الحقيقة المطلقة والثابتة. كل الثقافات تمتلك أشكالا من المقدس الديني، لكن الثقافة الناجحة هي التي تبدع انطلاقا من موروثها، تجديدات في مجال إنتاج القيم الرمزية التي تنظم الحياة المشتركة. إن علاقة ثقافتنا بالحداثة الأوروبية، علاقة إشكالية ومتوترة، على الرغم من تحول أشكال الحياة في أوطاننا إلى أشكال حديثة. الفن هو حقل من حقول مساعدة أنفسنا على تجديد الانتماء إلى أنفسنا، بإبداع أشكال مغايرة من تأويل نمط المقدس المناسب لشكل من المعاصرة التأويلية، الكفيلة بضمان مستقبل لغة الضاد، وما يولد في أحضانها من سرديات إيجابية وصحية وسلمية.


يقوم كل تطرف ديني على إقصاء كل أشكال تنظيم الحياة المشتركة المغايرة له. فهو يرفض العلم ويعتبر الفلسفة زندقة، ويحرم الموسيقى ويعتبر كل محاولة بشرية للتشريع لقيم رمزية هو اعتداء على سلطة الدين.


□ صدمة المقدس بين القبور المقدسة، ودولة الفقهاء المعاصرة، كيف تفككين شيفرة المرور إلى مقدس دنيوي في الحاضر العربي؟

■ المقدس والدنيوي هو مفهوم اشتغلت عليه في كتابي «الفن والمقدس» وهو موجود داخل الثقافة الفلسفية المعاصرة، خاصة ضمن كتاب بعنوان «شباب المقدس» لروجيه دوبري. وهو مقدس يحتفل بالحياة بعيدا عن ثقافة الموت. وفي الحقيقة، حاولت في هذا الكتاب مناقشة أطروحات مختلفة في شأن المقدس انطلاقا من الفن كتجربة رمزية تلتقي مع المقدس، في منح العالم معنى ما حتى لا يسقط في العدمية. وتدرجت من العلاقة بين العنف والمقدس لرونيه جيرار، الذي جعل من «الأدب بوصلة من أجل التوجه ضمن المسيحية» إلى الأطروحة القائلة إن كل عصر ينتج مقدساته بنفسه، إذ صرنا اليوم نتحدث عن قيم العدالة والحرية والمواطنة والمساواة بوصفها مقدسة، وعن حقوق الطبيعة والحيوان، وعن حرمة الحياة الشخصية للأفراد بوصفها مقدسة أيضا. أبناء المستقبل قد يضحكون طويلا من مقدساتنا، لأنهم انخرطوا في أشكال جديدة من المقدس الرقمي. المقدس الذي ندافع عنه هو مقدس حر من كل تعصب يؤدي إلى العنف والإرهاب والمعارك الدموية، التي عاشتها ديانات التوحيد، خاصة مع الحروب الدينية المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت، وما يعيشه الوطن الإسلامي من إرهاب معولم. وراهنت على سؤال كبير: «ماذا يستطيع الفن في زمن الإرهاب؟» لذلك انفتح الكتّاب على قسم خاص بالأدب بوصفه شكلا من المقدس، هو الذي قاد فرجيل في «الكوميديا الإلهية» وابن القارح في «رسالة الغفران». وقسم خاص بفن الرسم ومعارك الصور وتحريمها من عدمه.


□ تؤكدين في مؤلفاتك على المفهوم الكانطي للحداثة، فأي حداثة في نظرك نحتاجها اليوم بين الفن والمقدس؟

■ كانط هو موضوع اشتغالي في أطروحة الدكتوراه التي كتبتها بالفرنسية، ثم ألفت كتابا حول «كانط والحداثة الدينية». وكانط هو الفيلسوف الذي صاغ مشروع الحداثة فلسفيا، بوصفها تعني نشر قيم العقل، واتخاذ شعار «تجرأ على استعمال عقلك» دلالة أساسية للحداثة بوصفها تنويرا، أي بوصفها مشروعا لتدريب الشعوب على الخروج من حالة القصور، أي الطاعة لأولي الأمر، إلى حالة الرشد، أي تأسيس الشأن السياسي على عقد اجتماعي يضمن للشعب حرياته المدنية، مقابل تنازله عن حرياته الطبيعية. أما هل نجحت الشعوب الإسلامية أو العربية في الخروج من حالة القصور إلى حالة الرشد، فذاك هو الإشكال ههنا. لأن مقياس الحداثة ليس أن تكون أوروبيا، بل أن تكون حرا وقادرا على التشريع لنمط الحياة المشتركة. وهو معنى الدولة المدنية القائمة على استقلال تام عن المؤسسات الدينية. وهنا لا تزال البلاد الإسلامية دون مرتبة الحداثة، أي الخروج من طاعة أولي الأمر، لكن هذا الأمر ينبغي أن لا يُعمم بالطريقة نفسها على أوطاننا، ثمة أوطان تناضل شعوبها وأفرادها كل يوم من أجل ضمان العيش تحت راية دولة مدنية، أي دولة تعامل الأفراد بوصفهم مواطنين، لا بوصفهم قطعانا ورعاعا.


□ ينطلق التطرف من منصة محاربة المقدس، في نظرك كيف يمكن مواجهة هذا الانسداد العقلي بالهجرة نحو حداثة جمالية؟

■ نعم يقوم كل تطرف ديني على إقصاء كل أشكال تنظيم الحياة المشتركة المغايرة له. فهو يرفض العلم ويعتبر الفلسفة زندقة، ويحرم الموسيقى ويعتبر كل محاولة بشرية للتشريع لقيم رمزية هو اعتداء على سلطة الدين. ومن أجل مقاومة التطرف الديني، الذي يؤدي إلى العنف وإرهاب العقول، يقترح الفن أفقا مغايرا لإبداع فضاءات حرة للتعبير عن قدرة الخيال البشري على تجديد تصوراتنا للعالم، ولنمط الإقامة في الوجود. وهذا هو معنى العنوان الثاني لكتاب «الفن والمقدس: نحو انتماء جمالي إلى العالم». والمطلوب هو التنبيه إلى ضرورة إعادة التأريخ لذاكرتنا في أفق سردية جديدة لمستقبل ممكن لأوطاننا، سردية تجعل من التجارب الفنية منصة جديدة لإنتاج حياة رمزية وروحية ثرية وسلمية وبهيجة وكونية.


□ هل التداوي بالفن، بمعنى الإقامة في الفن والأدب هو البديل الحضاري لمواجهة هذا التوحش الذي يداهم العالم العربي؟

■ نعم ثمة من يعتبر الفن دواء لعالم الاكتئاب والعنف المعمم، الذي آلت إليه الإنسانية الحالية. وثمة أيضا من يعتبر أن الأدب هو شفاء للنفوس الهشة والقلقة والمنهارة،أفضل من العلاج النفسي نفسه. ونيتشه يقول إن «الحياة بلا موسيقى خطأ وتعب ومنفى». فالفن هو الذي يجعلنا نتحمل الوجه الفظيع من الحياة.


□ الجرأة النقدية في كتابك «الفن والمقدس» تشريح أم رؤية مستقبلية؟


■ هو الاثنان معا. لأننا لا يمكن أن نرسم أفقا للمستقبل، بدون أن يكون لنا موطئ قدم في الحاضر والماضي. نحن كائنات تاريخية ولا يمكن لأحد التنصل مما هو بدءا حتى لو تم بيعه في سوق النخاسة، لكن حتى لا يكون الماضي عبئا ثقيلا، علينا أن نعيد إبداعه بشكل مغاير بتجديده في كل مرة. وبوسع الفن أن يمنحنا فرصة إقامة ضرب من المعاصرة التأويلية مع نصوصنا القديمة. إن كل المتعصبين للماضي كما لو كان متحفا للموتى لن يكون المستقبل على أياديهم غير شكل من المقبرة.

منقول بتصرف 

15 - أبريل - 2021/ القدس العربي


تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.