1 قراءة دقيقة


"الرامة... رواية لم تروَ بعد" لنسب أديب حسين: كتاب يرمم سردية نكبة فلسطين من خلال الذاكرة الشفوية




أحمد الحرباوي



الرامة.. رواية لم تروَ بعد، محاولة موفقة للبحث في الذاكرة الشفوية للمكان، تم من خلالها رصد شهادات حية ووقائع تاريخية ترمم وجه الرواية التاريخية الكلاسيكية للقضية الفلسطينية، هذا الكتاب يسلط الضوء على مقولات التأريخ الحديث التي انطلقت في الربع الأخير من القرن العشرين وأهمية امتلاك أدواتها البحثية من أجل بناء تاريخ حقيقي غير نمطي ونهجي يقدم تحليلًا للواقع المعاش، من خلال ما يسمى ب"الاتنو-تاريخ" حيث يرصد لناهذا البحث دراسة في ذاكرة وهوية شريحة اجتماعية من المجتمع الفلسطيني، كان ولا زال لها دورٌ مهمٌ في صياغة ملامح بنية المجتمع الفلسطيني الحديث بعد نكبة فلسطين عام 1948م، هذه الشريحة التي تم سلخها قسرًا بعدة ممارسات احتلالية عن المجتمع الفلسطيني، فجاء هذا الكتاب من أجل إعادة بناء جسور الحقيقة، من خلال بناء هوية ممانعة للواقع من أجل ترميم الماضي وإعادة دمج تلك الجماعة الفلسطينية في حاضنتها الأم، لتصبح الذاكرة مكتلمة الأركان.

يؤسس هذا البحث لدراسة تاريخية مهمة متعلقة بإحدى أهم البلدات الفلسطينية في الجليل الأعلى عبر مرحلة مهمة في التاريخ الحديث تمتد من نهاية العهد العثماني إلى فترة الاحتلال الاسرائيلي ضمن ما تم تسميته بعملية (حيرام) في عام النكبة، وهذه الدراسة وفق كل مقوماتها وآليات الاشتغال عليها تمكننا من الانطلاق نحو استقراء الواقع في القرى المحيطة والتي تحمل نفس ملامح البنية الاجتماعية للرامة، لتفسير شكل تبلور النكبة بعيدًا عن الروايات الكلاسيكية، والتأسيس لعدة بحوث أخرى في الانثربولوجيا والثقافة الاجتماعية وتطور ونمو المدينة أو البلدات الفلسطينية ضمن الواقع الحالي في فلسطين التاريخية، وفق منظور اجتماعي سياسي يؤثث لرواية تاريخية لم تروَ من قبل بهذا التخصيص والتوسع.

يحتوي الكتاب على ثلاث فصول، يؤرخ الفصل الأول للبلدة الفلسطينية وتركيبتها الديمغرافية والاجتماعية وحدودها الجغرافية، ويسلط الضوء على أهم مقومات البلدة الاقتصادية إلى جانب التركيبة السوسيولوجية تاريخيًا، مما أعطى تصورًا عن ملامح التنوع داخل النسيج الفلسطيني وشكل العلاقات التي تربط بين نسيجه المتعدد، هذا النسيج الذي تم التعامل معه في التأريخ للنكبة كوحدة واحدة دون أي تخصيص للظروف والوقائع التي كان لها الدور الأكبر في صياغة شكل البقاء أو التهجير، أو دور هذا التنوع في صياغة السلم الداخلي للقرى والاسقرار في كافة المجالات المختلفة على صعيد الادارة الاجتماعية أو ضمن نظام الصراعات القبائلي أو المذهبي ذو الأشكال المختلفة.

أما الفصل الثاني وهو الأهم لأنه يرتكز على سرد حكاية النكبة من قبل أشخاص عايشوها دون أن يبرحوا أراضيهم، وهذا يختلف عن بقية الدراسات التي أعتمدت على روايات اللاجئين الذي هُجروا إلى أماكن مختلفة وحملوا روايه شبه متجانسة بما يتعلق بسردية الاحتلال، وهذا ما أعطى تصورات عن قضية التهجير بقيت منقوصة، لأن الواقع داخل فلسطين المحتلة الذي يشكل جزءً أساسي من النكبة، ظل يحتوي على ما يقارب من مليون ونصف من الفلسطينينين اليوم، لهم بالغ التأثير في تشكل الواقع، كما أنه تم التعامل معهم بسياسات مختلفة لضمان فصلهم عن قضيتهم الأم.

أما الفصل الثالث فهو يهتم بتأريخ أشجار نسب أهم العائلات الفلسطينية داخل البلدة، والتي تعطي تصور مهم عن شكل المنطقة تاريخيًا على مدار أكثر خمسة قرون، من خلال هجرة العائلات واسقرارها في بيئة مقسمة اليوم كانت تشكل وحدة جغرافية واحدة، وهذا يدل على المستوى الضمني على إعطار فرصة لتتبع صيرورة التاريخ في المنطقة عبر عدة سياقات تاريخية وسوسيولوجة وسياسية تشكل مباحث مستقلة وأرضية خصبة للتأسيس لعدة دراسات اثنوغرافية مستقلة تتعلق بتراصفات المجتمع الفلسطيني والعربي في المنطقة المحيطة.

من أهم ما يطرحه الكتاب جدليات مهمة من واقع اجتماعي سياسي مهم جدًا تسليط الضوء عليه من أجل بناء ذاكرة شعبية تعتبر في ظل هذا التشرذم من أهم حاضنات الهوية الوطنية الفلسطينية، حيث توؤرخ لبنية فلسطينية تم تفكيكها اليوم بفعل وجود الاحتلال الاسرائيلي، لأنها عبارة عن شهادات شفوية ليوميات معاشة رصدت توجهات الفرد والجماعة في التعامل مع كل التحديات التي كانت تحيط به على كافة المستويات، وهذا النمط من التفاعل الاجتماعي يحمل عنصر الصدق لأنه حتى ولو كان على المستوى الفردي إلا أن الفرد ضمن هذا التفاعل يعمل ضمن جماعة تصيغ ملامح الحاضر وفق الماضي وتؤسس لمستقل سيؤول إليه الواقع بشكل حتمي، وتأتي أهمية هذا الرصد المرحلي في الحاجة إلى التأريخ لسردية النكبة التي لا تتشابه مؤثراتها بشكل متجانس في جغرافية فلسطين بالرغم من الواقع الاحتلالي الموحد والسياسات الممنهجة والموجهة لضرب الهوية الفلسطينية بشكل عام.

يؤسس الكتاب بشكل ضمني وغير مقصود لوحدة النسيج الفلسطيني، بالرغم من تفتت هذا النسيج اليوم بسبب عدة أحداث وتحولات فرضت نفسها على سكان الرامة بشقيها المسيحي والدرزي، حيث تم سلخ  المسيحيين والدروز بشكل أخص عن مجتمع الأم بفعل عدة عوامل أهمها مضايقات الحكم العسكري ومصادرة الأراضي لدفع السكان نحو التجنيد الاجباري بالجيش الاسرائيلي، وقيام السياسات الاسرائيلية بصياغة هوية جديدة للدروز من خلال صياغة هوية جديدة لهم من خلال سلخهم من المجتمع الفلسطيني وربطهم بمجتمع الدولة الحديثة من خلال خلق لقضية رابطة الدم والغاء بعض الأعياد المشتركة مع المسلمين إلى جانب التدخل بالمناهج الدراسية، إلا أن ملمح الحياة الاجتماعية لا يخفى على أي فلسطيني أو عربي بكونهم جزء لا يتجزأ من نسيجهم ويحمل نفس مقوماتهم الثقافية سواء في الحياة الفلاحية أم بالقبائلية والعشائرية التي تتحكم بالحياة في المجتمعات العربية المختلفة، إلى جانب الوحدة مع الألعاب الشعبية والعادات وغيرها الكثير، وهذه البنية تدل بشكل قاطع على اختلافها وتنافرها مع بنية المجتمع الاسرائيلي الذي لا يحمل أي من هذه المقومات، وهذا المستوى الثقافي يدل على ارتباطه بالنسيج الفلسطيني الذي يشترك معه في كل تلك المقومات.

من أهم مقومات التأريخ هو الاعتماد على الحيادية في تأويل الذاكرة، وعدم انتهاج مبررات لكل سلبية قد تنتج عن الممارسة الاجتماعية أو السياسية ضمن أي ظرف من الظروف، فمن المعروف عن دينيماكية الجماعة البشرية في التعامل مع الازمات وفق ما يضمن لها السلامة والأمن حيث يعتبر هذا النزوع نحو ضمان السلامة من أهم الغرائز الانسانية، حيث عرض البحث أهم التحولات في علاقة بعض زعماء الدروز مع العصابات الصهيونية فترة الاحتلال، حيث لم يأتي هذا التحالف بشكل فردي أو من منظور تعاون ثنائي مرصود، بل تبعيات تاريخية من ثلاثينيات القرن الماضي، وتطور حسب سياق الذاكرة الجمعية لسكان الرامة بسبب الظروف التي فرضت نفسها من أجل حماية القرية ككل بكامل نسيجها، حيث لم يتوانا الدروز عن حماية جيرانهم من المسيحيين أو المسلمين من خلال انتماءهم إلى المكان والأرض لا إلى السياسة، كما أن صور المقاومة الدرزية المغيبة عن رواية النكبة الكلاسيكية تستحق أن يسلط عليها الضوء لأنها لازالت مستمرة حتى اليوم ومرتبطة بالقضية الأم وهي الارتباط والتمسك بالأرض، وظهر هذا بشكل جلي فترة الحكم العسكري للجليل وما انبثق عنه من ممارسات متعددة يصعب حصرها هنا.

في النهاية يلقي الكتاب بشكل ضمني الضوء على السياسية الاسرائيلية الممنهجة ضد التنوع الثقافي الفلسطيني، فيرصد لنا الآليات التي انتهجتها السياسة الاسرائيلية في التعامل مع كل مقوم ثقافي على حدى، وهذا يؤسس لدراسات كبيرة لتضع مقاربات حول المقومات الثقافية ودورها في تشكل النكبة على أرض الواقع ضمن الرؤية الاستعمارية الاسرائيلية، كما أنه يؤسس لدراسات فلسطينية في مجالات سوسيولوجية واثنولوجية واثنغرافيا مهمة تفكك سردية النكبة وترصد تحولاتها الكبيرة على المجتمع الفلسطيني الكبير، ويأتي هذا التأريخ ليؤكد أهمية ودور الذاكرة الشفوية المهم في التأريخ بعيدًا عن التاريخ المكتوب الذي اعتمد على رؤية وأسلوب كلاسيكي أدى إلى فهم منقوص لتراكمات النكبة ومراحل تبلورها عبر سيرورة الزمن.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.