لو أنه لم يتم احتلال فلسطين عام 1948م لكان أهل مدينة الخليل الآن في بداية شهر نيسان/4 يستعدون للانطلاق للمشاركة في "موسم النبي موسى" حيث ستشارك نساء المدينة في خياطة راية النبي ابراهيم، حيث تقوم نسوة إحدى العائلات في كل عام بتولي مهمة خياطتها وتطريزها، وسيتجهز العرسان لعقد قرانهم في النبي روبين أو الحرم القدسي أو قبر راحيل، كما سيتم التحضير من أجل ختان الذكور وذبح العقائق وتوزيع الصدقات طوال الأيام العشرة المخصصة للإحتفالات بالموسم. تعتبر المواسم الدينية من أبرز وأشهر الممارسات الثقافية في فلسطين، وامتازت فلسطين بترتيب خاص وسنوي لهذه المواسم حيث امتازت بالتنظيم والزخم الحضاري المتوارث والتقاليد الصارمة والالتزام الجماهيري. من أشهر تلك الاحتفالات الموسمية "موسم النبي موسى" ويُعرف بأن أول من انشأ هذا الاحتفال هو صلاح الدين الأيوبي إلى جانب مواسم أخرى تقام فيها الاحتفالات مثل موسم النبي شعيب وموسم النبي روبين، والنبي يقين. كان الهدف من إنشاء هذه الاحتفالات في العهد الأيوبي مبني على عدة أسباب أهمها: توحيد صفوف المسلمين وبيان قوة تجمعهم أمام بقايا الصليبيين أو الحجاج الاوروبيين في فلسطين بعد عقود من الحروب الدامية، وفي مدينة الخليل كان الهدف من المواسم الدينية متمثلًا في دمج الأكراد والاثنيات العرقية الجديدة (الوافدين مع صلاح الدين بعد الحروب الصليبية) مع التميميين سكان مدينة الخليل الذي يرجع تاريخهم في المدينة إلى ما قبل الاسلام، وبعد دخول الحكم الإسلامي إلى الشام أخذوا زمام إدارة المدينة سياسيًا ودينيًا وفق ما يسمى بوقف تميم الداري، حيث تنافس الأكراد والتميميين على إدارة المدينة التي تعد رابع أقدس مدينة اسلامية، ومدينة مهمة للمسيحيين واليهود لإحتوائها على مقامات النبي ابراهيم ويعقوب واسحق ويوسف وزوجاتهم، وتطورت تلك الخصومة إلى حروب طاحنة راح ضحيتها المئات خاصة في العهد المملوكي بين الطرفين، وهدأ ذلك الخلاف وانتهى في العهد التركي بسبب التقسيم البيروقراطي للحكم القادم من تراتبية وظيفية من الدولة يعين من خلالها المسؤولين عن إدارة المدينة دينيًا وسياسيًا. كان موسم النبي موسى يبدأ في شهر نيسان (ابريل) قبل أسبوع من بداية الاحتفال بعيد الفصح المجيد، وكان أهل الخليل يتجمعون في منطقة السوق القديم (بركة السلطان لاحقًا في العهد المملوكي فالعثماني) وينطلقون يوم الخميس في موكب مهيب تُحمل فيه الرايات وتطرق الطبول وتتلى الأهازيج طوال الطريق حتى الوصول إلى بيت لحم، ينزل المشاركون في الحفل من نساء ورجال وأطفال في منطقة قبر راحيل (زوجة النبي يعقوب) وتشعل الشموع والقناديل وتتلى الأهازيج وتقام حلقات الذكر، وينطلق الموكب بعد صلاة الجمعة إلى القدس حيث يتم التجمع في ساحة المسجد الأقصى الذي يكون عامر بالمشاركين في الموسم من القدس ونابلس، وتقام هناك الاحتفالات وحلقات الذكر والرقص الصوفي، وحفلات ختان الأطفال وتنحر الذبائح وتقام حفلات الزفاف وغيرها في مشهد كبير. وتبقى الاحتفالات حتى الخميس الذي يسبق الجمعة العظيمة لعيد الفصح المجيد أمام مرآى الحجاج المسيحيين القادمين من كل أنحاء العالم، ويغادر الوفد إلى الخليل باستثناء سكان المدينة والقرى المجاورة المسيحية للمشاركة في احتفالات عيد الفصح، ثم بعد قرن من الزمان أصبحت الوفود تنطلق يوم الاثنين إلى أريحا ( مقام النبي موسى الذي بناه المماليك) وأصبحت تقام فيها طقوس الاحتفالات، وكان اليهود والمسيحيون يشاركون في هذا الموسم بإيعاز من والي ولاية بيروت الذي كانت تتبع لها مدينة الخليل ضمن متصرفية القدس الشريف ( حسب التقسيم الاداري العثماني). في بداية القرن العشرين حاول الانتداب البريطاني طمس الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني من أجل تمزيق الروابط الحضارية التي تسهم في بناء هويته الموحدة، حيث منع راية وفد الخليل من دخول القدس عام 1920م، وحدث اشتباكات مع عناصر الأمن واليهود اسفرت عن مقتل العشرات، ومن هذه النقطة بدأت المواسم تشكل نقطة تحول من طقس ديني ثقافي إلى حشد سياسي لمواجهة الآخر (بريطانيا ووعدها بوطن قومي لليهود) ومنعه من تحقيق أمانيه، واستمر الاحتفال بموسم النبي موسى حتى احتلال الخليل والقدس عام 1967م، وتوقف لعقود طويلة قبل أن يتم إعادة إحياؤه حديثًا كمشهد دال على عراقة الممارسة الثقافية الحية للشعب الفلسطيني. بقلم أحمد الحرباوي