كنت أبلغ من العمر ثماني أو سبع سنوات، أتعلق في ثوب أمي وهي تمشي، لم تكن تشعر بي حتى، كانت تبكي أغلب الوقت، لتجرني خلفها طوال الطريق من حارة الشيخ نحو القلعة (عمارة تيجرت/ مقر القوات البريطانية) هي ونسوة خالي ونساء كثر من حارة العقابة وقيطون وقصبة السوق، يتجمعن أمام مقام علي بكاء بعد صلاة الظهر ويحملن البرغل في (الأناجر/ صحن نحاسي ضخم) وهو مغطى بقماش أبيض، هنا تتنهد السيدة نعيمة أبو سنينة مواليد الخليل (1931م) ثم تكمل كلامها: كانت أمي تعض على (المنشفة/ غطاء الرأس القطني الأبيض)بأسنانها كي تواري وجهها، وتفعل مثلها النساء، وهن صاعدات الجبل فقرب عين خير الدين يقبع معسكر انجليزي كبير، يأخذن استراحة صغيرة في ظل مبنى النيابة الإنجليزي والكنيسة الانجيلية (مبنى متحف جامعة الخليل حاليًأ/ دوار ابن رشد) وهناك كانت تطل علينا راهبة، تراقبنا ونحن نحاول صعود الطريق الوعرة إلى العمارة، كان صمتها يحيرنا دائمًا، وعندما نصل إلى مبنى العمارة نقف لساعات تحت المطر والبرد أو الشمس ننتظر العسكر كي يحملوا الطعام إلى المساجين. لا تتوقف الطائرات وهي تحلق حولنا لسحق الثوار في "شعب الملح" ووادي التفاح ومحيط بير بلد النصارى (جبل حي الجامعة حاليًأ) عن الضرب، أسمع صوت القنابل ودوي الرصاص وكأنه لم يغادر أذني حتى الآن، كانت ترافقنا عجوز من عائلة الجولاني سجن زوجها وأولادها وحفيديها، تقف أمام البوابة الكبيرة خلف السلك المعدني وتظل تشتم بكلمات لا نفهمها، كانت تقول أمي أنها كلمات انجليزية تعلمتها من العسكر البريطاني في السوق (فكن عرب) لم تكن تعرف تلك المسكينة التي استشهد ابنها الكبير في الثورة، أنها لا تشتمهم بل تشتمنا نحن، لكن حرارة الشتائم وصوتها المتحدي كان يحمل قصدها للعسكر بكل وضوح. في أحد الأيام خرج العسكر وقلبوا الوعاء الذي تحمل فيه البرغل لأولادها ورموا به أسفل الوادي، لكنها أزالت المنشفة (غطاء الرأس ولمت فيه البرغل، وأحكمت اغلاقه) كان المطر غزيرًا ونقيًا، حلفت أمي أنها في نهاية الشتاء وبداية الربيع عندما حملت الطعام لأبي في السجن رأت بقايا البرغل قد نمت من جديد أمام تلك البوابة، وبعد عام من الثورة تحديدًا أواخر عام 1939م قام جندي بريطاني بتفتيش كومة البرغل في أنجر سيدات من عائلة التميمي عن طريق تحريك كعب البارودة الخشبي في الوعاء لينسكب أكثر الطعام على الأرض، وفي العام القادم كانت الربيع أمام البوابة أجمل وأنضر، لكن الثورة حينها كانت قد انتهت وعاد أبي بمرض السل إلى البيت ليموت بعد شهرين، كانت النساء تنزل منحدر جبل المحاور وهن يرددن بصوت مقهور: يا حب البرغل يا معبى بالسلة.... ربولي الغربا في قلبي عِلة يا حب البرغل يا حامل سلامي... فايت ع السجن انت بدالي وظهرًا وهن صادات المنحدر والعرق يتصبب من جباههن كن يغنين بصوت متحدٍ: يا حب البرغل يا حامل سلامي.... فايت ع القلعة عند الخلاني يا حب البرغل يا منقى بالحبة....... إحنا طبخنا والله ع محبة يا حب البرغل والانجر متملي.... قعدوا الحبايب ع الجوع يا دلي كان جبل المحاور يردد صدى النسوة وهن يغنين، حتى أني سمعت تلك الراهبة تغني هذه الكلمات في أحد الأيام دون أن تعرف معناها. توفيت السيدة نعيمة أبو سنينة عام 2020 عن عمر ناهز ال 91 عامًا في ضاحية البلدية. في الفيديو الفنانة الفلسطينية دلال أبو آمنة تقدم الأغنية التي تم تأريخها حديثًا من قبل النادي بعد أعوام من نسيانها في مدينة الخليل برفقة نساء المدينة في بيت الشهيد محمد جمجوم الذي أعدمته بريطانيا عام 1930م لتولد بعدها حركة التحرر الوطنية الفلسطينية.