1 قراءة دقيقة

ماذا لو أطعمتك قلبي (نصوص نثرية)

 

ماذا لو أطعمتك قلبي، للكاتبة إيمان زياد، والصادر عن دار ريم للنشر والتوزيع، بصيرة إنسانية متقدة تتدفق في شريان الإنتاج الانساني لتغذي الحياة بمعناها العادل، نصوص تطرح ألف سؤال عن جواب مالح، لم يروِ عطش النص المتأمل في أفق الذات وتفاعلها مع ما يحيط بها، وفق سياق متأمل مغموس بعواطف مرهفة أرخت بدفئها على بنية النص، من خلال هذه الإضاءة سيتم التركيز على بنية الخطاب الذاتي داخل النصوص وفق مقاربة بنيوية تكوينية، كشفت عن ارتكاز النص على منحنيين أساسيين ضمن مسار واحد مرتبط بتيار الوعي المفضي إلى البوح، حيث جاء المنحنى الأول متعلق بخطاب الذات وتأملاتها (المونولوج) و الآخر مرتبط بخطاب مرسل نحو وجه آخر للمتكلم وهو الأفق المتصارع مع الذات، والذي تم تمثله في صورة حبيب تارة ووطن تارة أخرى، ولكن هذا الوجه الآخر لم يتعدى عتبات التأمل الذاتي داخل وجدان الكاتبة، لينتج داخل هذا الإطار تيار واعي ذو بعدين، يسير ضمن مسار  واحد كما أسلف سابقًا،  لكنه نافذة مفتوحة على مصراعيها تكشف تفاصيل الواقع، حيث حمل النص في بنيته الداخلية رؤية واعية متعلقة بالمحيط الخارجي، واعتمدت في هذه الإضاءة على منظور بنيوي تكويني في تحليل النص،  ولعدم تكرار  النتائج، اعتمدت على عدة قصائد كنماذج حملت ملامح  مختلفة، يمكننا من خلالها الولوج إلى رؤية العالم داخل تمثلات النص النثري:

 نص (هل أدركت؟) وهو المفتاح الاول داخل الكتاب، حيث يأتي سؤال الاستفهام في بنية الجملة كنوع من أنواع الخطاب الموجه نحو الآخر المتخيل (الحبيب) أو بالأدق المشتهى أو المتمنى، وسؤال الاستفهام دلالة وجود فجوة بين بين الذات المتكلمة التي تؤمن بأن الحب قادر على كسر حتى قوانين الطبيعة، وبين الآخر  الفاقد لملامح ذلك الإيمان، وبنية النص هذه تعطي صورة عن استحالة  الادراك، وتحميل الآخر لخطيئة عدم فهم حقيقة المشاعر، وهذا على المستوى العام يدل على وجود أزمة حقيقية في التواصل, فاضطراب الشمس جائز في لهفة الهوى، وعناق الريح محتوم بتتشققه على السارية المدرسية والجدار الخشن لحتمية الإصطدام، وبؤس البوح ليس مرتبط بالساردة فقط بل هو موجود عند الآخر، ودليل ذلك في النص: خطوات الحبيب المتخفية في الزقاق تفضحها القطط التي ترصد رائحتها فيه، كل هذه الدلالات على مستوى البنية الداخلية للنص تشير  إلى انقطاع الطريق نحو الالتحام، وهذا الزخم في التصوير  يعطي دلالة على رؤية النص التي تدل على فقدان اتصال الذات مع ما يحيط بها، حتى مع الحبيب الافتراضي، فتصبح الكتابة هنا هي الوجه الآخر للصمت، ضمن وعي ذاتي مدرك لهذه الحقيقة، والقلب الذي تدلى من معصم الحبيب، دلالة على بداية الإنفكاك، وعلى المستوى العام يتمظهر لنا سؤال عميق: لماذا في لوثة الشوق نريد من الآخر أن يؤمن بكسر المسلمات في سبيل الحب؟ ولماذا نحمل وزر تعلقنا الزائد على عاتق الآخر؟ وحسب بنية النص يأتي سؤال آخر: لماذا يجب على الذكر أن يتحمل نجاح العلاقة أو فشلها؟ حسب تأويلينا بناءً على دلالة النص العميقة هذا اعتراف غير مباشر بالسلطة الذكورية في الحب، فهل هذه حقيقة يجب أن نسلم بها؟ لأنه حسب النص هو من يحمل وزر نجاحها أو فشلها.

كما التيار الذاتي في ببنية النصوص الأخرى ، حمل الهم الوطني بنفس الوعي، حيث حملت العاطفة هذا الهم الانتمائي بإحساس أنثوي صادق، بعيدًا عن أي إطار أيدلوجي، أو أي قالب من قوالب الشعارات الرنانة التي تصب فيها الرؤى الوطنية، وبذرة الإبداع هنا تكمن في كون الوعي الخاص للنص منفك عن شعارات المحيط، فجاء متحركًا على وتر الرؤية الذاتية وإحساس الكتابة، ومن نماذج ما ظهر في النص ( تعوي البلاد على خد أولادي) فارتباط الأرض بالنسل دلالة على صدق الطرح والاحساس، ودلالة النسل في توارث هم القضية له عدة دلالات، منها تكريس فكرة الانفكاك من المحيط، لخيبة الأمل في تحقيق أي انجاز وطني ضمن منظومة السياسية المحيطة، وتتكرس هذه الفكرة، في النص مرة أخرى في جملة  (من أطلق الكلاب على الأحرار ليصبح الجميع في خطر) وهنا الدلالة الداخلية للنص تنفتح على المشهد الراهن بكل وضوح وبموقف واحد لم يتغير ضمن مسار السرد،  والمميز هنا انفكاك النص عن الخطاب الوطني السائد والتأدلج الذي يتبناه أغلب الأدباء في المشهد الثقافي الراهن، لأنها كتب بوعي أم وأنثى له دور كبير مرتبط بالانجاب والتربية وتوريث الهم الوطني للأبناء، لا الكتابة من منطلق أيدلوجي يصب في بوتقة الشعارات، ودلالة النص تعكس صدق القضية المتبناة وعدالتها.

وظهر في عناوين النص المختلفة دلالات جندرية تباينت من حيث مستوى طرحها فقصيدة صلصال، حملت ملامح تيار نسوي أحادي الطرح، حيث لم يكن هناك لبس في نقد الفكر الذكوري بين مكنونات البوح، ولكن ما خفف من وتيرة الصوت النسوي الحاد ، هو بروز  بعد ميتافيزيقي في الدعوة لتشكيل الفكرة، كالطين على لوح صلصال دوار  في عقل قرصان متقاعد، أي أنه رد فعل على حقيقة موجودة ومترسخة في المفاهيم الاجتماعية، وليس دعوة متطرفة للجندرية، والوجه الآخر لذلك الصوت النسوي الأقرب للأنثى جاء في تبني النص لقهرها  في المجتمع الذكوري وهذا ظهر في قصيدة (يحكى أن)، لأن البعد الأنساني الصادق المتعلق بكينونتها داخل بنية النص هو من ترك للقارئ مهمة التثبت من صحة ما يقال، ودلالة ذلك : (انتزعوا الوقت من اظافرها) (ويروى أن وجوها أخرى عضت على قصب الثوب)، ففعل الانتزاع لم يأتِ من تمرد أجج شراسة الآخر، كما أن الوجوه الأخرى هي التي اعتدت بشكل سافر على عذرية الثوب، وهنا انتصار للظلم الاجتماعي ككل، لا للظلم الموجه ضد المرأة بشكل منحاز.

أما قصيدة حب أزرق حملت ملامح كل أمل محبوس، فرمزية اللون كانت تتمحور حول المسروق من أماني الحالمين، بداية القصيدة تقول أكاد أعرف لون الأزرق، وهذا دلالة على عدم القدرة على تحديد ماهيته، دون الجهل به، فهناك جزء مسروق منه أومنا كي يكون المشهد أكثر اكتمالًا، بنفي أي تيه عنه، وهنا النص يحمل في بنيته، ذلك الوجع المتأصل في حقيقة إدراك الجزء المنقوص من أحلامنا، بفعل الآخر الشرس الذي ينقص من حقنا بالشيء ليصبح حقيقة مطلقة داخل منظومة فكرية متخلفة، لا بفعل التقاعس عن المضي نحو الإكتمال بتحقيقه أو امتلاكه، فدلالة النص تقول على سبيل المثال:  (تمضي صباها تحيكه صبرًا )،  (مراوغة البحر لعيون المهاجرين)،  وسؤال النص هنا: أن كيف يمكن للحلم أن يحمل مقصلة النهايات؟ ودلالة عدم الاكتمال هو الوصول الى الشاطئ ونحن متجردين  من الحلم كعجوز وجر الغياب ملامحها،  كل هذه دلالات تنفتح على حقيقة الواقع الذي تتصارع معه الذات ليصبح أي خيار سيان ما دامت فاجعة النهاية محتومة بانتصار أحد الأطراف، فدلالة القول : فاغفر لي ولك انسحاب الحياة من جبهتنا، يفيد بحتمية الحرب في  محاولة حيازة الأحلام التي نصبوا لنكتمل بها.

وتبرز نفس الخسارة في نهاية الصراع بين الطرفين في نص آخر، يمتد على نفس المستوى البنيوي وهو نص  (واحد إثنان) فالآخر المشتهى، يملك نفس مأساة الخسارة عند المتكلم: (أنا وانت تائهان ضلا سبيلهما إلينا)، فالضياع المشترك هو المصير الواحد لذات النبض، (كأنني وأنت مقيدان في بطن أمي لا مخاض يفصلنا)، وعدم الولادة هنا لا يعني الموت، بل يعني الرغبة في الانعتاق من رحم الصراع، هنا تبرز دلاله مهمة وهي صراع الفرد بين زمنه المحسوس الذي يحمل رغبة الانعتاق من الزمن الانساني العام المتحجر في مفاهيمه، وملمح هذا الصراع الأفقي بين المشاعر الانسانية في ظل الجمود في الحركة هو من أجج تيار الوعي الذاتي الذي أمسك بكافة تلابيب البوح داخل النص.

وفي نص (كافية حقًا)  جاء هذا الصراع أكثر احتدامً لأن الخمس دقائق هنا جائت امتدادً للشغف الطويل المختبئ خلف ضجيج الأمنيات والتحرر، فكيف لخمس دقائق مرت في زمن مادي أن تججاوز احساس يمتد فوق مساحات من التطلع والأمل والتوق، وهنا  يُسقط النص جبروت الوقت، أمام اندفاع التوق في امرأة لن تنتظر نفخة الروح فيها من أي شيء كي تتحرر من  رقصة الصبر الطويل.

 

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.