أحمد الحرباوي
نشأت الكتابة الروائية كنمط من أنماط التفاعل الاجتماعي بين الفرد ومحيطة، وعلى مدى قرون طويلة اثبتت فعاليتها في القدرة على تمثل ملامح العلاقة التي تربط بين الإنسان والمجتمع معًا، باحثة عن أصل الكينونة والذات والواقع وما ينبثق عنها من إندماج أو إغتراب، لتعلن كل مرة عن الوجه الحقيقي للوجود، عرفت وظيفة السرد الروائي منذ نشأته بمحاولاته إعادة بناء الواقع المتدهور أخلاقيًا من خلال تفكيك بنية التحولات عبر مجموعة من الكلمات والجمل المعبر عنها بصيغة دلالية، وفق السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المنتج فيه النص، لان السرد هنا في الحالة الروائية دائمًا يعتبر نوعًا من أنواع التفاعل الإنساني الحقيقي، والذي يصب في المحيط الانساني للفرد الذي اكتسب منه رؤيته، وهذه العلاقة تنتج عند الكاتب رؤية ناجمة عن وعيه بالقيم الاجتماعية والسياسية والايدلوجية المحيطه به، وهذه الرؤية لا تتسم بصفة الفردانية لأن لها صيغة اجتماعية تاريخية أنتجتهاـ ويعد منتج النص جزء لا يتجزأ منها، يأتي كل هذا من منطلق تواجده وتفاعله مع ما يسعى جاهدًا من أجل تحقيقه، وفق منظومة الأفكار التي تعمل على صياغة تحولاته الذاتية وفق المتاح، ليصبح النص هنا خارطة تشير إلى كل ما هو آتي، ومن خلال العمل الذي نحن بصدد مناقشته في هذه الجلسة وهي رواية (حكايا ديار) للكتابة نداء الطوري والصادرة عن دار العمار للنشر والتوزيع 2020، سنلقي الضوء على قضية تربوية قل ما تم تناولها بالأدب الفلسطيني، وهي متعلقة بفضاء المدرسة الابتدائية بين معلمة تكره الأطفال، وأطفال ما انفكوا يعلموها كيف يمكن للحب أن يطغى على كل ما هو دونه، تنتقل أحداث الرواية بنا وفق سرد استرجاعي على لسان البطلة " ديار" وهي معملة متقاعدة تهزها سني عمرها إلى الذكريات نحو فضاء المدرسة الابتدائية التي كانت تعمل بها، ليحمل النص وفق تلك الآلية السردية شحنة محملة بالحنين والندم نحو تلك الذكريات التي تشكل مفاصل السرد عبر مجموعة من الحكايا المنفردة المتعلقة بطلاب متنوعين عبروا حياة ديار دون أن يبرحوا ذاكرتها، فأصبحوا رغم تتابع الزمن عبارة عن صور لقصص مقدسة تحمل ملامحها لما سنكون عليه نحن في المستقبل. يتنوع السرد داخل العمل وفق لغة رشيقة متذبذبة البنية بين زمنيين، زمن السرد والزمن الماضي المسرود عنه، والتحولات الكبيرة التي عصفت بالمسافة بين الزمنيين على المستوى السوسيولوجي والاقتصادي والسياسي، وحالة الفرد النفسية ضمن تلك التحولات وكيف أصبحت تشكل الحاضر بناء على هواجس المستقبل، رواية شيقة تحمل أبعاد مهمة على مستويات تربوية قد تغير من وجهة نظر المعلم أو المربي نحو الطفل، حيث ترصد لنا الكاتبة من خلال شخصيات الأطفال المختلفة نماذج نرصد من خلالها بنية الطفل النفسية التي تؤول به نحو سلوكيات معينة، حيث حملت دلالات اللغة توصيف حقيقي وصادق لتلك الانفعالات ودوافعها ليعطي السرد زوايا غير مرئية عن حقائق لا نستطيع أن نفهمها إلا أذا أدركنا ماهيتها، وسنقوم بتحليل هذا العمل وفق عدة ساقات مختلفة سنقوم بتناولها تباعًا من خلال هذه الجلسة.
يقول بول ريكور في كتاب الزمن والسرد، أن الزمن لا يكون بشريًا إلا عندما يضبط بطريقة سردية، والسرد هنا يأتي من الذاكرة، والذاكرة هي الحلقة المفقودة دائمًا بين السرد والزمن، لأن هناك تصادم وتزاحم دائمٌ بين النزوع للحقيقة في الممارسة التاريخية وبين الوفاء للذاكرة، ورواية (حكايا ديار) هي سرد الذاكرة التي حبست أنفاسها عند أول فرصة للبوح، كي لا يسقط أرق البداية على سكينة النهاية، رواية تكتب فصولًا عن حكايا وزعها الأطفال كالمؤن على سنين اغترابها الطويلة في مدينة ما انفكت تهديها كل ما تكره لكنها ما حملت معها بعد كل تلك السنوات سوى السعي الدائم نحو الحب، قصص وأطفال وشخصيات حملها السرد بأمانة لينضبط الزمن على إيقاع إنساني مكتمل الملامح، تنفتح الرواية على مشهد النهاية، سوزان التي أعدت حقائب الرحيل وابنته على سرير المشفى وديار المرعوبة من هاجس الأسئلة، لماذا وأين ومتى؟ فهي معلمة تعلمت كيف تأخذ دور الحياد بين أسئلة الأطفال وإجاباتهم حيث لم يسعفها منطقها في أن تجد أي إجابة أبلغ مما تفوه به الأطفال على مدى خمس وعشرون عامًا
اعتمدت بنية الرواية على صوت الراوي ( التبئير الداخلي) مما ساهم في تكريس البنية الحكائية والاسلوبية في التأثيث لحبكة العمل، حيث اعتمدت بشكل أساس على علاقة ديار ببيئتها، حيث حكمت هذه الرؤية باقي أصوات الشخصيات مما عزز من فكرة السرد القائم على الذاكرة لأن هذا الحشد الذهني للأصوات والأحداث المختلفة برفقة صوت راوي واحد داخل الرواية أكسبها بناء متمايزًا للمعنى، بالرغم من اعتماد الروايات الحديثة على تعدد الأصوات وبناء مونولوج خاص لكل شخصية لخلق نوع من الزخم والتنوع المفضي إلى بنية عميقة، إلا أن الكاتبة حولت هذه السرد الأحادي إلى بنية ايحائية مفعمة بالتنوع والأحاسيس والخيالات، وباستخدام تكنيك لغوي بسيط معتمد على التركيز على الاسم بدل الفعل والضمائر عزز من ظهور السرد المشهدي لا الاخباري وهنا نجحت الكاتبة في تعديل كفة ميزان اللغة والأحادية في الطرح لصالح الحدث ككل، فبالرغم من عدم وجود حدث نامي إلا بنية فعل الاستذكار ثبت اللحظة المرتبطة بالذكرى داخل أعماقنا المتفاعلة في محيط مغاير لنعلق في هواجس الشخصية عن الحياة لنجد أنفسنا مجبرين عن البحث عن أسئلة الأطفال.
المشهد الاجتماعي: حملت الرواية ملامح مهمة متعلقة بجدلية الصراع بين الشحصية وبيئة المجتمع، لكن دون أي تحيز أو بوادر صوت نسوي متعارك ومتصارع، بل بزت ملامح ذلك الصراع في العلاقة مع القائم الحقيقي الموجود، وتبلور ذلك بشكل جلي في حوار ديار مع رجاء ص ٢٣/٢٤/٢٥، وأهم ملمح تلك الصور طريقة المشي بالشارع والتي تحتاج لصرامة ما كي لا يشذ المرء عن ثقافة القطيع، كما أن الرضوخ من أجل تدريس الأطفال المهنة الأكره لديار لم يأتي من رغبة بل من حاجة اجتماعية فرضها التراصف الطبقي بالمدينة ذي فجوة عالية ابتداء من بائعة الميرمية مرورًا بحذاء رجاء التي نذرت مال أول راتب لها من أجل أن تستبدله بآخر، نهاية بديار التي تخلت عن المرغوب من أجل التأقلم مع المتاح. من أبرز الملامح السوسيولوجية التي ظهرت بالرواية هي ملمح الأسرة الفلسطيني في مدينة الخليل، والقائمة على الأب، حيث كان لوالد ديار حضور مركزي في صياغة ملامح ديار النفسية داخل النص، وحتى في ظل اختفاء الاب على أرض الواقع لم تنتهز ديار فرصة غيابه من أجل تحقيق نقص ما، بل أصبح والدها جزء من خيالاتها تستحضره بكل حدث تمر فيه حياتها، لم تعرج بنا الرواية على ملامح المكان بشكل مستفيض بل مرت بنا حسب حكايا الشخصات على ملامح المدينة أو القرية أو المخيم الذي ارتبط ارتباطا وثيقًا بحياة سوزان والصراع الذي كانت تعيشه بين السفر إلى امريكا إلى أن استقرت في المخيم.
المشهد السياسي: من أصدق ما برز في الرواية هو التيار الوطني السياسي الذي لم يحمل أي شعارات وطنية أو تحررية أو سياسية بل جاء الحدث الوطني كتحصيل حاصل لحدث تجري وقائعة في مدينة محتلةـ ولم يختلف ذلك التيار الوطني على امتداد أحداث الرواية طيلة خمس وعشرون عامًا، وظهر في حوار بين ابو العبد وقاسم ص٨/٩ ، وحوار ديار والعجوز في الفندق، وقضية بيع الاسوارة ص٣٠، إلى جانب قصة زواج سوزان، واستشهاد ابنها، ولكن ما أثث للواقع السياسي داخل العمل ما هو أعمق من الحدث وما ارتبط بالسياق النفسي المكتسب من البيئة والذي يتم تفريغه بتعنيف الأطفال ( يا ديار بداخلي جندي ص147) إلى جانب سيميائية الأسماء سما ديار وطن، وتكمن أهمية الرواية كخطاب تواصلي هي احتفاظها بملمح واحد للإحتلال متربط بوحشية، هذا الملمح الحقيقي الذي لم يتأثر بالخطاب السياسي المتغير المنغلق على حلم السلام، فهذا الامتداد في رسم صورة المحتل الحقيقي على مدى خمس وعشرون عامًا يؤكد ركون الواقع تحت تلك السطوة ضاربًا بعرض الحائط ما يسمى بحلم التعايش والتخاذل فالوطن والحرم لم يعودا متقبلين لصلاة الصامتين. ا
لحوار يعتبر الحوار القوام الرئيسي للسرد داخل العمل، حيث تحكم في كافة مفاصل الرواية، وهذه الوحدة في البوح على حساب المونولوج أسست لمتواليات غير مألوفة في علاقة الشخصية بالمكان، حيث تم تعويض بنية الصراع الداخلي بعلاقة أخرى كان قوامها الانسان والمكان كجزء أساسي من النظام التعبيري السردي، وظهر في علاقة الشخصية مع الشارع، الهاتف، المطرـ الشجر، النوافذ، البيت، المدرسة، الصف وغيرها العديد. أما بالنسبة للحوار الخارجي بين ديار و الأطفال أو الشخصيات الأخرى فهو كما ذكرت قوام العمل الرئيسي ويحمل سمات متعددة يختص كل حوار فيها بمناقشة تلك الثيمة ورصد شكلها في بنية عقول الصغار الذهنية وبنية تفكير ديار نفسها.