1 قراءة دقيقة

السرد المتكئ على الميتافيزيقيا لاستنطاق الكينونة تأملات في القصة القصيرة جدًا: السيد أزرق في السينما وجريمة نصف زرقاء انموذجًا

 

وفاء ابريوش 

مختبر السرديات الفلسطيني


من المهم الحديث عن القصة القصيرة جدًا كأهم سمات السرديات الحديثة التي اشتغل عليها الشباب أكثر من غيرهم، فالرؤية الشبابية المتطلعة إلى البحث والسؤال القَلِقْ وَجَدت في هذا الجنس الأدبي الجديد حيزًا مهما لطرح الأسئلة، كمحاولة للتعامل مع القضايا والاشكاليات التي تؤرق الذات والكيونة، بطريقة غير مترهلة ومستنزفة للبوح، فالرمز والايحاء والميتافيزيقيا كانت الملجأ الجديد من أجل البحث عن الذات أولًا ثم ما يؤرقها ثانيًا، وكتحصيل حاصل لهذه الجدلية بين الذات وما يربكها في قضية الوجودية نتجت رؤية فلسفية خاصة اتجاه تلك القضايا التي تفاعلت معها الذات بشكل يومي نتيجة حالة خاصة من الوعي، لتنتج لدينا توليفة سردية مختزلة الحجم لكنها غير مكتملة المعنى بالمعنى التقليدي، حيث تفتح كل قصة قصيرة باب التأمل والبحث عن المعنى الخاص في ذات كل قارئ أو متلقي لتلك التجربة الابداعية.

 من خلال هذه الورقة سأقوم بطرح استقراء لهوية تلك السرديات القصيرة جدًا من خلال قراءة في مجموعتين قصصيتين هما السيد أزرق في السينما لأحمد جابر وجريمة نصف زرقاء للكاتبة صابرين فرعون، والأزرق الحاضر صدفة بين العنوانيين يدل على سمة مهمة تعبر عن محتوى تلك القصص وارتدادها النفسي والسيميائي والميتافيزيقي ككل، الأزرق تحديدا هو لون ذهني دلالة على العقل كما يقول علماء النفس فهو يحتمل معنيين : أحدهما إيجابي  رامزا لنصف هدوء، و الثاني سلبي دلالة على نصف برود، وبالنسبة للشق الأول لعنوان مجموعة جابر القصصية التي لقبت بالسيد فيبدو أنَّ الرّاوي يحكي عن شخصية في عمق العتمة تراقب الشّاشة المضيئة، إذا نحن أمام بحثٍ في الظّلمة و الجوانيّة بإنارة خافتة أو معدومة، و هذا يحيلنا إلى أننا قد نكون أمام قصص غاية في الغموض و الغوص في النفس البشرية، وهذا يتقارب بشكل كبير مع الشق الأول من عنوان فرعون المرتبط بالجريمة منتصفة الأركان، حيث كانت الجريمة لها حجم النصف ولم تكتمل فما هي دلالة نقصانها و اكتمالها !

 هنا يتسلل اعتراف آخر بأن الجريمة أيضا تحمل اللون الأزرق ، والنتيجة كانت كاتبة تحكي عن جريمة بثقة عالية و رمزية جامحة وتنسج فكرتها بروية. السيد أزرق في السينما جاءت باحثة في البعد الميتافيزيقي للأحداث و الأشخاص، بلغة رمزية فارهة، بقلق منضبط نحو فكرة معيّنة، كأنما منح ذاته مكانا برزخيًّا لا مرئيًّا، ينظر بعين ثاقبة إلى الحياة و ما بعدها أو يعكس المسار الزّمني و يحاول إعادة ترتيب الوجه الآخر لردود الفعل الإنسانية الطبيعية و الغرائبية منها.  

  ثيمة قصصه تتراوح بين: الاختباء، الهروب، العتمة، المرايا، الفراغ، العدم، و المواجهة، يأخذ مشاهده بحرفيّة و يُدهشك بأنّ هذه الزّاوية  التي ترى منها ليست الزّاوية الحقيقيّة للمشهد كما في قصّة "فتاة تعيد نفسها"، بل يتجاوز تحديد إسقاط العين على صورة ما إلى مشاهد سريالية، يرينا فيها جابر الرّاوي جهرة، و يخاطب القارئ مباشرة في ذكاء فذّ و تشويق هائل، و تسلسل يخترق باطنه و يحاور نقصانهو اكتماله كما في قصّة " نقصان".    مادة مجموعة السيّد أزرق في السينما هي الصّراع، الذي ينتهي بتقبّل الآخر أو رفضه، أو الصراع مع الذّات و الطبطبة على كتفها أو الهروب منها، و قد تجلّى ذلك في قصص: لا أكرهك، لوحة خالدة، الكاتب ك، و يؤكّد ذلك قوله ص 31: 

" لكلّ إنسان ظلّ و هذا الظلّ هو تفكير الباطن، هو الذي اعتاد على الظّلال، و التي تعني أنّ الأجسام تراودها خيالات و أفكار و قد وصل إلى فرضية أنه لا يستطيع أحد ألا يفكّر في شيء، حتى إذا قرّر عدم التفكير، فإنه في تلك اللحظة يفكّر في العدمية ذاتها".   كما يُقعّد جابر لافتراضاته نحو الكون و الزمكان و الإنسانة، مؤكّدا على مبادئ سابقة مثل " الكارما " في قصته مكارثي و التي يسرد في جزء منها " إذا وُجد في جيب القتيل ورقة تقول أنا قاتل زوجتك.. ليصرخ في النهاية لست أنا من قتل أخي". 

  القاص تجاوز الماضي و الحاضر و بحث في فكرة غدا، و عكس الزّمن، نظر إلى ما بعد الوجود و استمع إلى ما بعد السكوت، افترض و خلق كينونة جديدة للأشياء، هو دقيق لدرجة حساب الأمور بالدقائق بل و تقدير الاحتمالات التي ستوصله إلى مراده كما في قصّة " الشبّاك الخامس ". أما بالنسبة للكتاب الآخر للكاتبة فرعون فقد جاء مفعم بالمهارات التي تمكنت منها القاصة والتي تمثلت في الاختزال و الإيحاء و الانزياح   إضافة إلى  اللغة الرصينة الساخنة كرغيف خبز طابون ناضج و مُشبع ، تارة تراه أسمرا و أخرى مُقشّر القمح أبيضا و الذي نقول عنه بالعامية " طحين كندي " ، بين الوطني و الغربيّ تنوعت شخصيات القصص و حصلت المتعة في تناولها كلها على ذات المائدة مقسمة بين صحون الأدب السياسي الساخر و النقد المجتمعي  لظواهر عدة و الحرب  و النقد الشعوري لإشكالات القلب  .   

  ما يهمني تلك المنطقة الخطرة التي تكتب فيها صابرين فرعون ، منطقة ميتافيزيقية و كأنها تربط شخصياتها بخيوط وهمية تُحرّكها أنَّ أرادت بخفة و سلاسة ، هذه المنطقة التي تختصر الزمكان تحدث في باطن الباطن تنطلق منها صابرين بعيدا عن أناها الكاتبة تتسلل إلى باطن شخصيتها و تحكي له عن ذاته في رسائل رمزية ففي قصة "ضجيج "ص33 تكتب صابرين شخصيةً على حافة الهاوية ، تعطيها منبر التفاصيل الصغيرة و السبب للانتحار في ذهول من المتلقي . 

و في قصة " ضربات جزاء " تصوير للحظة شعورية يستغرق فيها بطل القصة  في التأثّر غير الواعي ، البطلة تمارس حفر ندبتها و كأن الخطايا تظل تنقر قلب المذنب بحق الآخر .. إبداع الكاتبة في توصيف اللحظة الغائبة عن الآن و البحث في اللامدرك و في آراء روح تعدّت مرحلة الواقع لتُبدي رأيها في القصة و الحياة كما في قصة " فخاخ معطوبة " التي تحدثت عن شبح شهيد و في قصة " عقاب " تكرر السخرية من السياسة و الإعلام بعقلية واعية لما يدور حولها من حبكة إعلامية سياسية تنتقدها صابرين ، بذكاء و أناة المشرط في جسد القصة المختصرة التي تود سلخها من مرارة الوجود إلى الإيحاء . 

   في الوقت الذي كان يخشى الشعراء من القصيدة النثرية حدث مع صابرين العكس بتنا نخشى على القصة من الشعر و تكثيفه و صوره الفنية ، فهل تبحث القاصة عن قُرّاء من النخبة فقط لما تكتب ؟ لأن القارئ العادي سيغوص في حيرة شديدة في محاولة لإدراك المعنى ؟ فهل حددت صابرين جمهورها القارئ النخبوي أم تريد لأدبها الانتشار بين الجميع ؟ تلك نقطة مهمة على الكاتبة تحديدها في أعمالها القادمة ، إضافة لبعض المفردات الرياضية و الأبطال في قصص الغرب كان جميلا لو أشركت القارئ عبر الحاشية بالمعنى و التعريف بشخصياتها تعريفا  بسيطا حتى يستمتع القارئ و تسطع الجملة كاملة في نفسه .

 في النهاية ومن خلال هذا الاستقراء نجد أنفسنا أمام شكل أدبي جديد مفعم بالحياة والبوح وبتكنيك سردي قادر على الولوج إلى اشكاليات الحياة المادية والروحية والنفسية من خلال الخروج من دائرة الذات نحو فضاءات محيطة ميتافيزيقة استطاع من خلالها المبدع أن يعكس لنا صورة في الأفق تحمل كل تجليات صراعنا مع المتوقع والممكن والمستحيل.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.