1 قراءة دقيقة

تحولات النكبة في السرديات الفلسطينية

 

لعبت النكبة بالتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها، على احداث انكسار عميق داخل البنيات الأصيلة للمجتمع الفلسطيني، والتي جائت نتيجة تراكم تاريخي عميق، والسرديات الأدبية باعتبارها نتاج تفاعل اجتماعي بين المبدع ومحيطه، تحمل في طياتها ارتباطًا وثيق بكافة المتغيرات والمؤثرات التي تحيط بالكاتب، عبر مراحل نموه وعبر فترات انتقاله من حالته الطبيعية إلى حالة التفاعل الاجتماعي، جاء (‏علم الاجتماع الأدبي بالاستناد على اللسانيات‏),‏ محاولًا اكتشاف العلاقة المعقدة بين البناء الاجتماعي بتحولاته مع السرديات الأدبية المنبثقة عنه.

وهذه الورقة حاولت استقراء بعض السرديات الفلسطينية، قراءة سيموطيقية (الأسلوبية) من منظور نقدي، باعتبار هذا الخطاب تفاعل اجتماعي يحمل ملامح الفترة التاريخية التي انبثق عنها، والسؤال هنا كيف عكست السرديات الفلسطينية تلك التحولات العميقة التي انبثقت عن نكبة احتلال فلسطين؟

تجاوزت هذه الورقة السرديات التي أرَّختْ للنكبة، وعملت على وصف عمليات التهجير وما آل إليه السكان وما آلت إليه الفضاءات المكانية للفلسطينيين في مدنهم المحتلة، وفق سرد عام وصف الأحوال المأساوية للاجئين وللمدن الفلسطينية المحتلة، وترجمة للأحاسيس الملتهبة للتحرر والعودة، من خلال طرح رؤية مأساوية من ناحية، ورؤية بطولية من ناحية أخرى، لمواقف المقاومة والأمل والإيمان بانتصار العدالة في النهاية.

بل اعتمدت على نماذج عبرت عن عمق التغير والتشوه والتشرذم، في البنية الاجتماعية للسكان الفلسطينيين، الذين بقوا في أراضيهم، وأثر عملية النكبة على العلاقات الاجتماعية في ذلك المحيط المكاني والزماني.


لا بد من التعريج على أبرز ملامح المجتمع الفلسطيني في الأدب الفلسطيني الذي ظهر قبل عام 1948، حيث ينقسم الأدب في فلسطين حسب دراسة أ. ياسين فاعور:

1-     مرحلة المخاض (1920/1948).

2-     ومرحلة التأسيس الفني (1948/1967).

3-     والمرحلة الواقعية ما بعد عام (1967).

ملامح البنية الاجتماعية للمجتمع الفلسطيني في أدب ما قبل النكبة:

سأقوم بتقديم ملامح المجتمع الفلسطيني كما ظهرت في عدة سرديات هي:

1-       رواية (الوارث/1920) والمجموعة القصصية (مسارح الأذهان/1924) لخليل بيدس.

2-     ورواية (مذكرات دجاجة/1943) لاسحق الحسيني.

3-     المجموعة القصصية (الحياة بعد الموت/1920) لاسكندر الخوري.

4-     المجموعة القصصية (أول الشوط/1936) سيف الدين الايراني.

الوارث وومسارح الاذهان والحياة بعد الموت تعد من أوائل السرديات الفلسطينية التي ظهرت بعد ظهور أول مجلة فلسطينية تعنى بالأدب سميت النفائس عام1908م، وقد لامست القصص القصيرة الفلسطينية الهموم الاجتماعية وصورت الاحوال والاوضاع الاجتماعية:الفقر، والعلاقات الانسانية، وأهم ما ظهر فيها،  هو برز دور الاشعاع للمدينة الفلسطينية كمركز لبقية الاطراف والبنيات الاجتماعية الاخرى،  حيث كانت المدينة هي نقطة الارتكاز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للريف ذي الاغلبية السكانية الفلسطينية، فالمسارح والنوادي والاحزاب ودور السينما، جبت احلام الشباب الريفي للولوج إلى عالم الخيال في المدن.

وكانت هذه أبرز ملامح المجتمع الفلسطيني في القصة قبل النكبة ولو أنها جائت بهامش ضيق أمام الأحداث السياسية والهجرة اليهودية والتوتر السياسي مع حكومة الانتداب، ولكنها كانت تحصيل حاصل لواقع معاش وفضاء مكاني تجري فيه الأحداث، وأهم الملامح السردية لتلك العينة، كونها عكست التأثر بالأدب الروسي، والرومانسية الانجليزية، من خلال تركيزها على ظاهرة الصراع الطبقي الاجتماعي كظاهرة أساسية في تلك الأعمال، وهذا انعكاس عن البرجوازية الصغيرة التي انتجت الحياة الثقافية والأدبية في فلسطين تلك الفترة، فأبطال تلك الأعمال كانت تنتمي للبرجوازية الصغيرة المسيطرة في المدن، أو النقيض تمامًا، وفي هذه العينة كانت شخصية البطل هي الركيزة المحورية في العمل الادبي، إلى جانب وجود احترام لمقاييس الزمان والمكان.

 وبرز نوعين آخرين من الصراعات الاجتماعية المهمة: وهي صراع المرأة للحرية، والصراع من أجل الأرض وخاصة بما يتعلق بالهجرة اليهودية بأسلوب أقرب إلى التقريري الخبري.

والمهم هناالحديث عن ظهور وحدة في البناء الاجتماعي للشعب الفلسطيني على أرضه وارتباطه بقضيته الأم وتلاحمه في وجه الاستعمار، فكيف ظهر هذا المبنى الاجتماعي لاحقًا بعد النكبة؟


سأقوم بالتطرق إلى هذا الجانب من خلال تحليل رواية: (صراخ في ليل طويل): جبرا ابراهيم جبرا، فهي عمل سردي كتبت بعد النكبة بأعوام قليلة1954، فهي نموذج اختبر من خلالها الكاتب الفلسطيني عمق تلك التغيرات التي أفصحت عن مدى الدمار التي أصابت البنية الاجتماعية في المدن الفلسطينية، والتي أفرز تحول كبير في نمط السرد الفلسطيني الذي أسس إلى مرحلة جديدة في تاريخ الأدب المحلي.

في هذا العمل (كنموذج للمقارنة) جاء السرد متمحورًا على البعد النفسي الذاتي للبطل، نتيجة التفسخ في البنية الاجتماعية، حيث برز بوضوح من خلال النص الشعور العام بتبلور فكرة الفرد مقابل جماعية الآخر، إلى جانب بزوغ طابع تأملي صامت يدل على البحث على الذات في اطار المحيط الاجتماعي الجديد، أي غياب البنية الاجتماعية التي افرزت ذلك الفرد، وهذا يتضح من خلال استمرار طرح سؤال الهوية في مضمون النص أكثر من مرة؟ ، كما تميز السرد في تلك الفترة  بطغيان مفهوم الزمن اللا خطي الذي يدل وجود تشوه أو فراغ  في التاريخ يجب العودة اليه ومعالجته من أجل استعادة الشعور بالاستقرار والتطور الطبيعي في الحيز المكاني، الذي غاب فيه الزمن الجمعي المرتبط بالمؤسسات الاجتماعية المترابطة فيما بينها، وسألخص أهم التحولات التي أفرزتها النكبة على السرد في الرواية، باعتبارها نموذج مرحلي انتقالي في تاريخ الأدب الفلسطيني:


1- تحول الصراع الجماعي الى صراع فردي.

2- واهتزاز الذات المتبلورة في السرد، بتكرار طابع التقاطع (تفاعل الذات مع الزمن) فالشخصيات تهرب للماضي أو تحاول استقراء المستقبل بالأحلام، والحالتين تدلان على الهروب من الواقع،  مما يؤكد وجود صدمة تفصل بين زمنين مختلفي الملامح، لتصبح هنا الحالة النفسية هي التي تأخذ النصيب الكبير في رواية الأحداث.

3- بروز مسألة الهُويّة للرّوائيّين كمحور رئيسي بسبب المعاناة من الشعور، ازدواجيّة انتمائِهم النفسيّ والعاطفيّ .

4- التحويل القسري للبنية الاقتصادية والاجتماعية بسبب مصادرة الاراضي، وتحويل الفلاحين إلى عمال، وفقدان البرجوزيات الصغيرة لحاضنتها الاقتصادية والاجتماعية الذي انعكس في تلك الروايات عبر جدلية الفقدان وتحديات البقاء.

5- أصبح السرد بعيد كل البعد عن الأرض والارتباط بها من ناحية العمل، أصبح التوجه نحو التعليم كبديل لتحقيق الذات أمام تلك الخسارة.

6- لم يظهر غموض فيما يتعلق بالهوية الفلسطينية قبل النكبة، أما بعد النكبة فدخل الفلسطيني في صراع من ذاته ومع الآخر، ليطال جمالية العلاقة بين الأدب والوجود.

7- أصبح هناك طغيان للاعتبار الوطني في تحديد علاقية الفلسطينين فيما بينهم، عكس طغيان الاعتبار الاجتماعي في السرديات السابقة.

8- غياب وجود الاسرة السلطوية، وظهور الاسرة الديمقراطية، وهذه التحولات تشير إلى عمق التغير الحاصل في أنماط الصراع الاجتماعي داخل هذا الفضاء وما نتج عنه موت الشعور بالانتماء العائلي.

9- لم يَدخل الروائيّ في وعي الشخصيّة الداخليّ، فكانت بنية الصراع بالسطحيّة، فاتّسمت الرواية بالتصنيف النمطيّ الواضح بين ثنائيّة السلب والإيجاب، والتوتّر في العبارات، وهذا يرجع إلى الحصار الذي عانى منه الفلسطينيّون، ووقوعهم في بوتقةٍ مغلقة.

10- حضور ضمير الغائب بالسرد إلى جانب ضمير المتكلم، ولهذا دلالات عميقة في طرح القضايا الاجتماعية المتبلورة بالفقد.......

11- أصبح المكان، عنصر خانق يحمل ثنائية السلب والايجاب، لوجود الحكم العسكري والتفتيش والحاجز.

12- أصبح زمن الشخصية (الزمن النفسي هو من يتحكم في رسم ملامح الاحداث)، وهذا له دلاله فيما يتعلق بالحالة الشعورية للشخصية التي تعيش في النصى(مطاطي).


وهذه هي أبرز ملامح الرواية الفلسطينية فيما يتعلق بالبنيات الاجتماعية داخلها، وهذه الارهاصات الناتجة عن طرح أفكار بشكل أكبر من التركيز على النواحي الفنية بسبب راهنية تلك الفترة وتلك الصدمة، مهدت الطريق لتطور الرواية الفلسطينية للدفاع عن وجودها لتبين عمق ارتباطها بتاريخها وأرضها وهويتها.

 

 

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.